كيف تحوَّل المصريون من مواطنين إلى زبائن؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/08 الساعة 14:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/08 الساعة 14:52 بتوقيت غرينتش
السيسي- رويترز

في ظل دستور عام 1923، نال المصريون لأول مرة حق المساواة أمام القانون في الواجبات والحقوق. صحيح استغرق الأمر للمساواة مع الأجانب المقيمين في مصر عقدين آخرين، بإلغاء المحاكم القنصلية والمختلطة (محاكم مخصوصة في حالة نشوء نزاع بين مصري وأجنبي) عام 1948. لكن رغم ذلك، بقيت الظروف الطبقية في مصر بوجود الرتب الاجتماعية (البكوات والباشوات) وطبعاً الملكية، إلا بعد انقلاب/ثورة 1952، حين ألغيت تباعاً الرتب الاجتماعية والملكية وضمنها الدستور ومؤسسات الدولة العاملة على التقدم الاجتماعي السلمي والطبيعي. 

تميزت مصر بالذات بوجود طبقة عريضة من الفلاحين تقارب المعدومين اقتصادياً، إذ مثلت نسبة كبيرة من السكان، إلا أن مصر لم تعرف عبودية الأرض مثل نظام الأقنان الأوروبي (النظام الإقطاعي)، ولا النظام الطبقي الصارم مثل نظام الطبقات الهندي. وبعد القرن 19 (بُعيد الثورات الفرنسية: عام 1848، 1871)، كان لزاماً على أي سلطة في العالم أن تصيغ خطاباً سياسياً "تصالحياً" مع الطبقات الفقيرة، وخصوصاً بعد انتشار الأفكار البلشفية بعد عام 1917، فصارت كل النظم السياسية تنتج خطابات تصالحية لإجهاض التمردات أو إرهاصات الثورات الاجتماعية. 

وصاغ النظام السياسي المصري بعد 1952 خطاباً شعبوياً، مثله مثل كل الأنظمة السياسية فيما بعد الاستقلال أو التحرر، معادياً -بالطبع- للاستعمار وصديقاً للفقراء. فكان رئيس الجمهورية المصرية الأول، اللواء محمد نجيب، صديقاً للفقراء، وصديقاً للسودانيين، بينما كان رئيس الجمهورية الثاني جمال عبد الناصر أيضاً صديقاً للفقراء وصديقاً أكثر للسودانيين، تحول خطابه السياسي من شعبنا المكافح إلى جماهير العمال والفلاحين! وأعطى للسودانيين حق تقرير المصير، فقرروا حينها مصيرهم مستقلين عن القاهرة. 

عبد الناصر مع أول رئيس لمصر محمد نجيب/wikipedia
عبد الناصر مع أول رئيس لمصر محمد نجيب/wikipedia

جاء محمد أنور السادات بعدهم وأراد نزع الخطاب الاشتراكي الناصري عن خطابه "الفلاحي" الريفي، ولكنه نصب نفسه عمدة بدلاً من أن يكون رئيساً، فتبنى خطاباً أصبح فيه كبير العائلة المصرية: يتسامح أكثر لكن قبضته الأبوية باطشة قاصمة فنذكر جملته الشهيرة فى السبعينيات: "إن للديمقراطية أنياباً ومخالب".

ليأتي بعده محمد حسني مبارك، وخلال عقده الأول استعان بالناصريين أو منتوج منظمات يوليو، الذين مثلوا فيما بعد تياراً يطير للثراء من منصة "الدفاع عن الطبقات الأكثر احتياجاً". 

وبالقرب من الإفلاس الاقتصادي في أواخر الثمانينيات وحتى الإنقاذ الاقتصادي بثمرة المشاركة في حرب تحرير الكويت عام 1991، ونظراً لشروط الإنقاذ الاقتصادي، تم تغيير الخطاب السياسي بدلاً من الاهتمام والدفاع عن الطبقات الفقيرة إلى "مراعاة البعد الاجتماعي".

وبدأت السياسات الاقتصادية النيوليبرالية تتوحش أكثر عندما تم احتضان اقتصاد السوق صراحة جهاراً عياناً في العقد الثالث من حكم مبارك بالتزامن مع وصول جمال مبارك لمعاونة والده في إدارة الدولة أو "المحل"، كما يعتقد.

أما عن جماعة الإخوان التي حكمت مصر فيما بين عامي 2012/ 2013، فكان لها خلطة سياسية مميزة في خطابها، عن طريق الالتفات السياسي لجمهور الفقراء وبالذات في الريف المصري الأفقر من الحضر، من ثم الانحياز للحرية الاقتصادية، الحرية الاقتصادية التي استطاعت من خلالها الجماعة التمويل وبناء علاقات سياسية/اقتصادية مع دوائر نافذة في المجتمع المصري والمجتمعات العربية كلها المحافظة أو الإصلاحية. 

وأخيراً وليس آخراً، الخطاب السياسي والنظام الاقتصادي الذي أنتجه انقلاب يوليو 2013، فهو يريد ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد؛ سيطرة مركزية على الاقتصاد والسوق (الاستيراد والتصدير واحتكار بيع السلع الأساسية)، منافسة جماعة الإخوان في العطاء "التكافلي أو الصدقات" لجمهور الفقراء بالريف والحضر، بجانب تمتع شركات "الجيش" بالحريات الاقتصادية مع شركات الدولة، أي بتسعير اقتصادي مقابل الخدمات العامة، بمعنى أبسط تخفيض الدعم أو رفعه كلياً.

بالنظر للسرد السابق نرى أن المواطن المصري منذ قيام الجمهورية فوجئ بالنظام السياسي بخطابات تخطب وده، إذ يترك ليستأجر ويبرطع ويتكاثر ويرسل ذريته للمدرسة والجامعة والمستشفى مجاناً، مقابل أن تتولى الدولة مسألة التصويت مكانه في الاستفتاءات والانتخابات البرلمانية والمحلية، وتختار الدولة وزراء الحكومة والسياسات وتخوض الحروب دون مشورته، بل وستلجأ له الدولة أحياناً ليخرج مزاحماً بمظاهرات تأييد بسبب الانتصارات والهزائم سيان.

وعندما حاول السادات أن يخفف الدعم، لتخليص الدولة -المثقلة بالديون من السياسات الاقتصادية المخربة والحروب المدمرة- من تكاليف الصيانة وعبء تحصيل الإيجارات، وبالتوازي تحرير إيجارات الأراضي الزراعية ورفع الحراسات وتحقيق مرونة في إدارة المؤسسات الاقتصادية. خرج المواطن معترضاً، وكانت "انتفاضة الخبز" فتراجعت حكومة الرئيس آنذاك بضغط من القوات المسلحة، إذ كان شرط نزولها الشارع لحفظ النظام هو العدول عن القرارات.

رئيس مصر الأسبق أنور السادات
رئيس مصر الأسبق أنور السادات

استمرت السياسات الاقتصادية كما هي حتى العقد الأول من ولاية حسني مبارك، أثناءها تعقدت أزمة عجز الميزان التجاري، فتعقدت أزمة أسعار صرف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية، وشهدت الدولة انهياراً في الخدمات الأساسية التي تقدمها من تعليم وصحة وطرق.

وبعد الإنقاذ الاقتصادي في عام 1991، بالتقسيط وعلى مهل، تخلت الدولة عن التزاماتها من تقديم تعليم وصحة مجاناً، فتفشت الدروس الخصوصية والمدارس / الجامعات الخاصة، وبتلك الأوضاع وبالتزامن مع الزيادة السكانية المتفجرة، وبدأت الدولة تترنح من أزمة قرب الإفلاس في الثمانينات، إلى أزمة صرف العملة في نهاية وزارة كمال الجنزوري أواخر التسعينات حتى وزارة أحمد نظيف 2002/ 2004. والتي دشن خلالها أحمد المغربي، وزير الإسكان والمرافق والتنمية العمرانية آنذاك، انتقالاً نوعياً في سياسة الدولة من تمكين المواطن من مسكن، إلى "مساومة المواطن ليعيش". وهي نفس السياسة التي يتبناها اليوم "طبيب الفلاسفة" الرئيس عبد الفتاح السيسي، إذ يقدم خدمات الدولة لمواطنيها مقابل الدفع فقط. 

المواطن المصري يتحول إلى زبون

فبكل عنجهية يعلن السيسي ضمنياً وعلانية أن المواطن أصبح "زبوناً"، فنرى سياسات عامة لا تأبه بالمصريين، سواء الخاصة بالصحة والتعليم، فنجد الدولة تفرض رسوم 300 جنيه للطفل في المرحلة الابتدائية، وتتوسع في بناء الجامعات الأهلية والخاصة بالمصروفات، دون تطوير الحكومية أو رعايتها، ولا يتوقف الأمر عند ذلك بل يتباهى النظام بمشروع حملة "100 صحة" للقضاء على فيروس الالتهاب الكبد (فيروس c) الذي جاء في الأصل من معونة أممية!

ويطير السيسي فرحاً وزعماً أن بناء العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة لم تكلف موازنة الدولة جنيهاً واحداً!، مخفياً الحقيقة أن تلك المشروعات ومثيلها قد بنيت بدم الشعب المصري، من خلال المضاربة بأسعار الأراضي وأسعار الوحدات السكنية هناك، إذ ارتفعت أسعار الأراضي الصحراوية من 200-300 جنية للمتر في زمن (وزير الإسكان إبراهيم سليمان المدان بجرائم الفساد) إلى 5000-15000 جنيه للمتر المربع في الخلاء! أما أسعار الوحدات السكنية فقد زاد المتر المربع من 1000-1500 جنيه/متر في الحدود الدنيا إلى 8000-12000 جنيه /متر.

إن حقيقة الوضع القائم كاشفة أن المواطن البسيط تحول إلى زبون "سُقع" كما يقول المصريون بالعامية، يشترى ويباع باسمه دون حاجة منه لإبداء رأي. ومع إغلاقات المصانع ومنشآت وهيئات المواطن البسيط (من الحديد والصلب إلى اتحاد الإذاعة والتلفزيون)، وعجز الموازنة العامة المستمر والمتصاعد، وعجز ميزان المدفوعات، وتفاقم أزمة الدين العام، وانهيار سعر صرف العملة بعد ثلاثة تعويمات، وانفجار التضخم، وتزايد معدلات الفقر إلى حدود غير مسبوقة في العصر الذي نعيشه، لا يجب أن ينزعج أو يبدي غضبه، بل عليه أن يطرب لتقدم مؤشرات قوة جيش مصر، ومؤشر الازدهار الذي لا يعلم ماهيته تحديداً إلا رئيس الوزراء مصطفى مدبولي. 

إن مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية كارثي، لن تنفع معها وجود سياسات صدقات مثل معاش "تكافل وكرامة" أو مشروعات كـ "حياة كريمة"!. والأسوأ من ذلك، أنه لا أحد يمتلك برنامجاً لوقف التدهور، ولا ننتظر إلا استمارات تفويض للرئيس المشير طبيب الفلاسفة ليكمل فشله وينهي على المواطن أو الزبون.

في الحقيقة لا يوجد علاج في هذا الوقت العصيب، إلا نظام وطني شفاف وتشاركي يعلن عن وفاة كل نظام يوليو العسكري، وقيام نظام حكم رشيد. فطالما اليوم يدفع المواطن مقابل الخدمة فمن حقه أن يشكل اتحاداً للمستهلكين، وأن يشتري خدمة تليق به، أو يمتنع عن اللعب ويطالب بمحاسبة الدولة التي تشحذ باسمه وتشتري طائرات رئاسية وتبني قصوراً رئاسية لقيصر، بينما يعيش في الظلام بدون كهرباء!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

شريف العصفوري
روائي وكاتب مستقل
تحميل المزيد