ذلك اليوم الذي أدركت فيه أحد أبشع آثار الغربة!

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/08 الساعة 12:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/09 الساعة 10:28 بتوقيت غرينتش

عزيزي المغترب، هل تخيلت يوماً ما لحظاتك الأولى في الوطن بعد العودة؟ دعني أجيبك بالنيابة عن نفسي؛ لا أعلم ماذا عنك، أما أنا فقد رسمت صورتها مراراً وتكراراً حتى حُفر اللقاء الأول بذاكرتي واستقر كما لو أنه حدث بالفعل.

لربما تراءى ذلك المشهد أمام عينيك ولو لمرة واحدة على الأقل، ولكن هل تفكرت يوماً ما في حياتك بعد العودة أم أنك تظن أنك ستجد كل شيء في مستقره وقراره كما لو أنك لم تتركه أبداً؟ 

أما عن بيتك فلربما تجده على حطة يديك كما يذكر في الأمثال الشعبية، وذلك بغض النظرعن أطنان الغبار التي اعتلت أثاثه وبعض المخلوقات الصغيرة التي وجدت لنفسها مسكناً هادئاً فافترشت أعالي الرفوف وسكنت جوانب الغرف. ولكن ماذا عن الشوارع والطرقات؟ والمدينة التي عشت فيها عشرات السنين؟ والمدن الأخرى التي لعلها حظيت جزءاً من وقتك يوماً ما؟ والناس؟ ماذا عن كل هؤلاء؟ 

إذا كنت تعتقد أنك ستجدهم كما تركتهم، دعني أخبرك يا عزيزي أن ما تظنّه هو ضربٌ من ضروبِ الخيال. 

لا يمرُّ الوقت في الغربة كمثله في الوطن! يمر الوقت نعم فهذه سنة الكون لكنه يمر خاوياً بلا طعمٍ أو معنى! يمرّ سريعاً أو هكذا أتصوره فلا تكاد تبدأ السنة حتى تجدها تنتهي وأنت تُعدّد النعم والإنجازات -وكذلك الخسائر- وتضع خطتك للعام الجديد، ولكن السيئ هنا أنك يمكنك عدّ الذكريات التي تستحق حملها في ذاكرتك على أصابعك. يمكنك تلخيص العام بأكمله في بضع أوراق لا أكثر! لا أعلم ما إذا كان هذا الشعور مرتبطاً بطبيعة العصر الذي نعيش فيه أم بخصوصية الظرف الذي يعيشه المهاجر. ولكن المثير حقاً أنه من فرط السرعة والانشغال في الغربة، يُخيّل إلينا في معظم الأحيان أننا نتحرك في فلك بعيد عن الوطن -مدن وطرقات وأناس- حتى نكاد نقنع أنفسنا أننا نتحرك وكل ما هو خارجٌ عنا هو في حالة سكون تام. ربما يطمئن هذا الوهم هيجان قلوبنا التي كادت أن تفتك بها الغربة فنقنع أنفسنا أننا سرعان ما نعود إلى عالمنا الصغير في الوطن لنُكمِلَ حياتنا وكأنَّ شيئاً لم يكن.

يقال دائماً: "عليك أن تتألم لتتعلم" إلا أن الدرس كان قاسياً جداً هذه المرة. دعني أقصّ عليك مقتطفات من ذلك اليوم الذي أدركت فيه أحد أبشع آثار الغربة. دعني آخذك معي لنشاهده سوياً، لعلك تجد في تجربتي ما قد يعنيك مما يهون عليك ولو جزءاً يسيراً من الوصب الذي ألمّ بك منذ اللحظة الأولى في الغربة مما يعينك في رحلة التشافي من هذا الألم.

حيث أرسلت لي صديقة عزيزة مقطع فيديو لمدينة ما -مدينتي- دون أن تفصح لي أولاً عما بداخله فقد أعدته لي كمفاجأة لتدخل السرور على قلب رفيقتها، لكنها لم تكن لتعلم كم الأسى الذي سيتسبب فيه ذلك المقطع الصغير لي آنذاك، إلا أنه كان نقطة الانطلاقة للاشتباك مع واقع مرير لطالما هربت منه!

ها أنا أقف هنا بعد بضع سنوات ظانة أني سأجد كل شيء كما كان في السابق مثل طفل صغير لا يفقه شيئاً من سنن التغيير.. لقد تداخل عليَّ كل شيء. 

لقد مات عم سعيد، بائع الحلوى المفضل لديَّ في المدينة. أما محل الحلوى فلا أعلم مصيره، هل أغلقوه أم ورثه أولاده أم صار رماداً.. حتى وإن كان يمارس نفس نشاطه فإن روحه تغيرت.. فلم أعد تلك الطفلة التي تجري ببعض قطع النقود إليه لتشتري حلواها المفضلة ولم يعد هناك ذلك الرجل العجوز طيب القلب والمعشر وحلو اللسان.. رحمه الله. 

تهدمت عشرات البيوت والمتاجر وفتحت أخرى جديدة. توفي المئات وولد أكثر منهم. تمتلئ الشوارع بالغرباء على حد وصف أقاربي. لم تعد مدينة ناسها، بل أضحت محل الغرباء ومطرق المقبلين على الزواج. حتى جامع المدينة لم يعد كالسابق بعد أن تغيرت ألوانه وتبدلت زخارفه بما هو غريب علينا. الشاشة تتوقف هنا وأتوقف معها لأحدق في ذلك المنزل الكبير وكأن شيئاً ما بداخلي يتحرك تجاهه. وكأنه يناديني إليه، ولكن الفضاءات الشاسعة التي تفصل بيننا تحول بين نبراته الباكية الحنون وبيني. 

بعد تحديق طويل في الفيديو -التي أرسلته لي صديقتي- أدركت أنه بيتي. وإذا بأنهار من الدموع تفر كأنها في سباق! دموع على النسيان أكثر منها على البعد. دموع تلومني على نسياني لبيتي.. الألوان تبدلت؛ لقد عفا عليها الزمن. 

حاول جزء منّي أن يضمد جراحي قائلاً: "ربما لأنك أقمت بداخله أكثر مما نظرت إليه من الخارج" والجزء الآخر ينظر إليَّ معاتباً نسياني.. في تلك المواقف لا يجد المرء لنفسه مخرجاً من دائرة جلد الذات إلا أن يبدأ في تأليف الحجج التي تخفف ولو شيئاً قليلاً من آلامه. بعد لحظة تأمل اختلطت بالشعور بالشجن والأسى أدركت أنه قد مرت تسعة أعوام على فراق الوطن. 

والله إنا لمشتاقون، ولكنه اشتياق مغلفٌ بالهيبة؛ اشتياق الحبيب إلى محبوبة غادرها منذ زمن، ويغشى أن يعود فيجد حالها قد تبدل وقلبها قد صار لغيره فلا يسرُّ قلبه ما رأى. 

هيبةٌ من التصادم مع واقع ربما لم نشهده عن قرب، ولكننا عاصرناه فسمعنا عنه ممن يسكنون بداخله وما جاءنا من البيان إن دل على شيء فإنه لا يدل إلا على عالم غريب تبدلت ملامحه وانتُزعت جذوره وتميّعت مبادئه فصار بعض سكانه مسخاً بلا هوية. 

أما البعض الآخر فصار غريباً بداخل الوطن لا يقدر على العيش فيه ولا خارجه. عقولهم تخبرهم بضرورة الرحيل للنجاة بما تبقى لهم من مبادئ، ولكن قلوبهم تأبى المغادرة فهناك مستقرهم ومسكنهم وملبسهم لا يعرفون غيره وإن كان الرداء مرقعٌ.

والماء به بعض الشوائب، ولكن في نهاية الأمر يبقى الرداء رداءهم والماء مِلكٌ لهم -إلى الآن على الأقل-، وإن لم يكن جُلّ الأمر بيدهم. 

لا ضير إن تغيرت بعض ملامح المدن، ولكن الموحش حقاً هو تغير القابعين بها فبتغير الأفكار تنتج عادات جديدة وسلوكات دخيلة لم تشهدها المدينة من قبل فيتغير الجو العام للمكان بما يمكن لساكنيه القُدامى استيحاشه فيستنشقون رائحة الغربة فيه من على بعد أميال. 

فما كان يألفه المُقيم وما كان يستأنس به البعيدُ كلما استدعى وطنه إلى الذاكرة قد انمحى جُلّ أثرهِ عنوةً. ويمسي البعيدُ عاشقاً متخوفاً ويصبح القريبُ محباً متحيراً. فذاك البعيدُ يخشى العودة وهذا القاطنُ فيخشى الرحيل.

وبعد أن استمعت إلى هذه القصة، هل ما زالت حرارة الشوق متقدة كما كانت من قبل؟

عليك يا عزيزي المهاجر أن تواجه هذه الحقيقة فلم يعد هناك شيء كما تركته حتى مناخ المدينة حلت عليه الكثير من التغيرات. لربما أقسى ما سيواجهه المغترب حين عودته أن كل ما يشتاق إليه في الوطن قد تلاشى وأضحى جزءاً من الماضي -مجرد ذكريات- ولكنها غالية لا تقدر بثمن ولربما هي ما تُحييه حتى هذه اللحظة؛ حيث يحمل الوطن -وأغلب ذكرياتنا فيه- بين طياته دفئاً قد لا تشعره طوال عقدٍ كامل في الغربة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

رحمة الفقي
باحثة ماجيستير في مجال سياسات الطاقة
باحثة ماجيستير في مجال سياسات الطاقة والمناخ والتنمية المستدامة
تحميل المزيد