جسر للتقارب بين الشرق والغرب.. كيف يسهم الأدب في تجاوز الحواجز الثقافية؟

تم النشر: 2023/08/08 الساعة 09:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/08 الساعة 09:13 بتوقيت غرينتش
جسر للتقارب بين الشرق والغرب - shutterstock

جَسر "الهوة بين الأنا والآخر" موضوع شائك وعالق، تعتريه مجموعة من المقاربات والإشكالات التي تبرر ضرورة البحث والتفاعل مع هذا الطرح بما يفيد الإجابة والتوضيح، وتقريب الصورة للمُشاهد العربي بشكل جيد يتيح بعض الفهم، بوصفه واحداً من الذين تأثروا بهذه النظرة، وعاشوا مراحلَ مهمةً كانت بمثابة بقايا ونتائج لهذه الهوة بين الأنا والآخر، والتي خلفت أيضاً مجموعةً من التساؤلات، لا يزال يطرحها حتى أبناء هذا الجيل، حيث إن هذه الأزمة التي خلفتها الهوة السحيقة ما بين الأنا والآخر انتقلت بالضرورة من جيل إلى آخر، مستفيدةً من عشرات المظاهر والعادات التي تُرسّخ لهذا الفعل، وتحتفي به دون أن تلقي بالاً لآثاره الوخيمة على المجتمع بمختلف مكوناته.

"النظرة إلى الآخر" تختلف بتنوع مرجعيات البحث وزاوية المعالجة، بحيث يصعب التطرق إلى كل الجوانب التي تؤطر وترسم طرحاً بهذا العمق التاريخي والثقافي والنفسي. الكتابة الإبداعية راكمت مئات الأعمال ومنجزاً تجريبياً وبحثياً واسعاً، قد يمكن، وبشكل أكثر موسوعيةً، من الغوص في دهاليز الهوة بين الأنا والآخر، بل وتعقيف الخيوط الناقلة التي تتيح الفهم الجيد لهذا الطرح، بحيث نتجاوز تلك التحليلات السطحية والمستهلكة، ما يترك عدة مسافات بيضاء تلازم الموضوع، وتقزّم من إدراك المتلقي.

المنجز التجريبي الأدبي العربي راكم خصائص ميزته وأسهمت في إثراء مجالات البحث داخله، حيث جرب الكتاب والمؤلفون، كلٌّ من زاويته الخاصة، التطرق إلى الآخر داخل النص الأدبي والروائي، وحتى الشعري في مناسبات عدة. اختلاف مرجعيات البحث وأصناف الكتابة، بل وتداخلها، كاستجابة ملحة لما فرضته مرحلة ما بعد الحداثة من اشتباك وتداخل في الأصناف والرؤى، أعطى تعدداً وانسيابية في تلقي الموضوع واستقباله، كما أضفى أيضاً ثراءً وغنًى، جعل المنجز العربي مفخرةً، وأوصله إلى مراتب مهمة، وكانت له فرصة مقارعة الأعمال العالمية في عدة جوائز ومحافل مرموقة.

في المغرب مثلاً، تطرق الكتاب والشعراء في عدة أعمال، سواء تعلق الأمر بالروايات، والمجموعات القصصية، والمقالات، أو حتى في دواوينهم الشعرية، إلى الآخر بوصفه مستعمراً ومستبداً ومهدداً للوجود الإنساني، وذلك راجع بالضرورة إلى تاريخ البلد العميق مع الاستعمار وحروبه الطاحنة، حيث تعاقبت على استعماره واستنزاف ثرواته عدة حكومات وقوى أوروبية، ما جعل الأجيال السابقة تخوض حملةً تاريخيةً بغرض المقاومة وطرد الآخر (بوصفه مستعمراً)، ليس عسكرياً فقط، بل ثقافياً أيضاً، كون الحالة الثقافية ليست سوى انعكاس مباشر للحالة الاجتماعية والنفسية للأفراد. لم يسلم (الآخر) من مظاهر المقاومة وعلى كل الأصعدة، عسكرياً، واجتماعياً، وحتى ثقافياً، حيث خرجت للوجود أعمال أدبية ومعزوفات شعبية وأشرطة، بل ومسرحيات كان شغلها الشاغل هو ذلك الآخر المستبد والدخيل على ثقافتنا القومية، وهدفت إلى توسيع تلك الهوة بين الأنا والآخر، دون الانفتاح على كيانه ومحاولة معرفة بعض الأهازيج والظروف النفسية التي طبعت هذا الاحتكاك بيننا معاً، ودون محاولة سد الثغرة المنبعثة من دخان الحروب ومعركة استكمال الوحدة الترابية. الآن وقد انقضى أجل الحروب ومر على ذلك أعوام عديدة، لا يزال ينظر إلى الآخر بنفس النظرة الشمطاء والسخرية الفارغة من شذرات المنطق، ولا تزال الأعمال الأدبية تنتج شخصيات تتسم بإحساسها بالنقص أمام الآخر، الذي استبد جيلاً لا يتقاطع مع جيلنا نحن حتى في أبسط الأمور الحياتية واليومية، ولا نشاركه نفس ظروف الاشتغال وطريقة العيش. العالم الآن يأخذ منحًى مغايراً ويبتعد جداً عن كل الأمور والأفكار المستهلكة والقديمة، لهذا ينبغي تجاوز تلك النظرة إلى الآخر كما عرفناه داخل ثقافتنا، وكما تعرفنا إليه داخل بلدنا، خصوصاً أن العملية كانت قد تمت عبر جيل مختلف تماماً عن جيل اليوم.

في هذا الصدد، أذكر كاتباً مغربياً من كتاب الأدب الفرنكفوني المغاربي باللغة الفرنسية، الروائي أحمد حبيب مزيني، والذي كانت له فرصة الدراسة والاستقرار داخل أسوار فرنسا، والتشبع بالأفكار والعقلية الفرنسية لمدة جيدة، تكفي لتأسيس شخصيات من شأنها أن تعكس حقيقة العيش والوجود هناك، وليست تؤسس لفكرة مغلوطة. ألف مزيني هناك عشرات الأعمال ما بين الرواية والقصة وأدب الناشئة، حيث اتسمت مجمل شخصيات أعماله بتحدثها فرنسية الأصل والمولد، وتميزت خصالها وطباعها بقربها وعكسها لثقافة فرنسية محضة، وهذا إن كان راجعاً إلى شيء فهو يرجع إلى أن الكاتب هنا، بوصفه راوياً عليماً، قد كانت له فرصة الاحتكاك بالفرنسيين داخل بلدهم الأم ووسط أجواء ثقافتهم التي تخصهم دون غيرهم، ما شكّل عنده وعياً مغايراً لما عاشه كتاب آخرون لم تسمح لهم الفرصة بالاقتراب من الآخر داخل كيانه ووجوده الحقيقي، وفضّلوا أن يعالجوا تلك الهوة الكائنة بيننا وبين الآخر من زاوية ضيقة، واستناداً إلى أفكار تم تصديرها لنا دون أن تتاح لنا فرصة اختبارها أو الاحتكام إلى نظريات صحيحة تمثل الآخر بهويته الشخصية وداخل كيانه المتفرد والخاص به وحده.

من جهته، فقد تطرّق الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف، وعضو أكاديمية اللغة الفرنسية، في مجمل كتاباته وأعماله، إلى موضوع الهويات الثقافية والإنسانية، حيث تناولها من زاوية تاريخية محضة، ركز فيها على عمق التوثيق واستعراض أهم التحولات الحضارية والاجتماعية التي طبعت تاريخ الدول، وأسهمت بالضرورة في تكوين صور الشعوب عن بعضها البعض، كما ركز أمين معلوف على قطبي الشرق والغرب في فك شيفرات التحول الذي يطال الهوية؛ دينيةً أو ثقافيةً أو نفسيةً كانت، فيحولها بذلك إلى صورة مغلوطة وقاتلة للآخر، ما يرسخ في المخيلة الجماعية أفكاراً ليست تعكس بالضرورة حقيقة هذا الآخر تماماً. يهتم معلوف في كتابه الموسوم بعنوان "الهويات القاتلة" بالانحرافات التي تزكي تحول الهوية إلى شيء هادم ومدمر للآخر، ويطرح جملةً من التساؤلات العصية عن الفهم، بحيث يتحدث مطولاً عن تأكيد الذات من خلال نفي الآخر، وعبر دحض كيانه وإلغاء التقاليد الخاصة به، والتي تمثله دون غيره، ما يسبب اتساعاً قاتلاً في الفجوة التي تحدد هذه العلاقة مع الآخر، ثم يتساءل معلوف أيضاً عن السبب الذي يقود البشر إلى التناحر والصراع، بحجة فرض هوياتهم، دون إلقاء بال للآخر الذي يتقاسم معهم جزءاً من التاريخ والطبيعة المشتركَيْن، مخضعاً المصطلحات من قبيل الانتماء، والتقاليد والحرية والكيان والثقافة والتاريخ للنقاش، بهدف التبصر والاقتراب من الهوة بين الأنا والآخر.

الكاتب والمفكر أمين معلوف – وسائل التواصل الاجتماعي

التجريب في الأدب كان مهماً جداً لتشكيل وعي جماعي، وبناء مقارنة عادلة في الحكم على جسر الهوة بين الأنا والآخر، حيث جرب كل كاتب من زاوية مختلفة، في أصناف عدة من قبيل الواقعية السحرية والرواية التاريخية والسيرة الروائية وغيرها، هذا أتاح المقارنة بين الأعمال والشخصيات وإسقاط معايير الحكم على الآخر كما نعرفه نحن في وعينا وذاكرتنا الجماعية، والآخر انطلاقاً من حضوره في الأعمال الأدبية والفنية التي ينحدر أصحابها من نفس الأصل والمنبع. حقيقةً، هناك تباينات صارخة واختلافات بالجملة تعتري نظرتنا إلى الآخر، هذا الاختلاف يتعمق كلما خضنا في العودة إلى الوراء واستكشاف الظروف التي طبعت تاريخ الشعوب والحضارات، كما تختلف أيضاً باختلاف درجة وعي السارد أو الراوي، ومدى معرفته واحتكاكه وانفتاحه، بل وإقامته في مؤقت الآخر وكيانه، على الأغلب فنحن نقيم في الآخر أكثر من إقامتنا في ذواتنا، وهذه الإقامة بوصفها سلسلة انتظارات طويلة ومتضاربة هي من تشكل عمق المعرفة بالموضوع، وهي ليست أبداً انتفاءً من وجود الآخر أو نكراناً له، بل على العكس تماماً، تلك "الإقامة في مؤقت الآخر" خيط ناقل يقلص من فرص الهوة في أن تتسع بيننا.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد أشرف الشاوي
كاتب مغربي مختص في الأدب
تحميل المزيد