في يوم من الأيام، كانت إحدى عالمات الاجتماع في جامعة بورنموث الإنجليزية تقف في مطار سول الدولي في كوريا الجنوبية، في الجهة المقابلة من الصالة الخاصة بوصول المسافرين، كان بارك جي سونغ قادماً من مدينة مانشستر الإنجليزية أيضاً.
وقفت الدكتورة ليم هيون جو، الدكتورة في مجال علم الاجتماع مُتسمرة لمدة دقائق؛ حيث رأت كيف استقبل الشعب الكوري نجمه الأشهر في عالم كرة القدم في ذلك الوقت، والذي كان يُمثل فريق مانشستر يونايتد الإنجليزي.
وقالت إن الشعوب الآسيوية في نظر أوروبا؛ هي مجرد عِمالة جيدة: أشخاص يطيعون الرئيس، ماكينات عمل لا تتوقف، لكن أبداً لم يحصلوا على التقدير الذي يستحقونه بعد!
ظنت الإنسانة التي تُشارك بارك جي سونغ وبني جلدتها، أن البحث الأوروبي عن مواهب آسيوية هو غرض خبيث للغاية، آخر أهدافه هو الحصول على موهبة مميزة في هذا النطاق، بينما في مقدمة أهدافه الاستفادة من رُعاة وكسب شعبية كبيرة في مساحة لا تصل إليها كرة القدم بسبب فوارق التوقيت الرهيبة بين قارة آسيا وأوروبا من خلال تسويق مواهب آسيوية في أنديتها!
معظم الشركات الكُبرى تتواجد في الصين واليابان وكوريا الجنوبية؛ في فترة من الفترات كانت الأندية الأوروبية تُبرم صفقات مع لاعبين فقط بغرض تحقيق عائد مادي من جذب راعٍ كبير على قميصها، وأيضاً الفوز بفئة جماهيرية لا يُستهان بها في اليابان، كوريا الجنوبية والصين.
لكن بارك جي سونغ وسون هيونغ مين خارجان عن هذا التصنيف؛ بل لنقُل بأن موهبتهما استطاعت أن تُخرجهما من التصنيف القاسي لمعظم أبناء القارة الصفراء.
ما قالته كان صحيحاً
لم تكن كلمات ليم هيون جو وتحليلها مجرد كلمات عابرة؛ حيث تعاقد نادي باير ليفركوزن الألماني مع الموهبة الكورية الجنوبية سون هيونغ مين في عام 2016، وفور تعاقده معه ظفر الفريق الألماني بعقد رعاية من إحدى أكبر شركات العالم والتي تستقر فروعها الرئيسية في كوريا الجنوبية؛ شركة LG.
لم يكن مُهماً في وقت من الأوقات أن تكون إنساناً، كان الأهم أن تكون مادة في نظر الأوروبيين؛ وكيل أعمال هيونغ مِن سون خلال فترة تواجده في نادي هامبورغ الألماني لاحظ شيئاً غريباً بخصوص اللاعب الكوري الجنوبي.
وكيله، كلما زاره وجده بمفرده، إما أنه يتدرب بمفرده، أو يجلس في أي مكان بمفرده، دون أي رفيق ولا صديق في نادٍ كرة قدم لا يُمكن أن تكون الوِحدة هي ضريبة التواجد فيه.
الحقيقة المُرة، أن سون هيونغ مين كان يتعرض لما يتعرض له أبناء شعبه ومن يُجاورهم من الدول التي لا تُرى إلا بعين المادة؛ كان يتعرض للتمييز والعنصرية بشكل طبيعي في أوروبا!
رغم ذلك لم يمنع هذا الأمر الكوري الجنوبي سون هيونغ مين، من أن يكون اللاعب الذي استطاع كسر هذه الصورة النمطية في أعين الأوروبيين، وذلك بحصده جائزة الحذاء الذهبي في الدوري الإنجليزي الممتاز موسم 2021-2022 بالمناصفة مع النجم المصري محمد صلاح، ودخل النجم الكوري أيضاً قائمة من سجلوا أكثر من 100 هدف في الدوري الإنجليزي مُتساوياً مع النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو ويفصله هدف واحد فقط عن النجم الإيفواري ديديه دروغبا.
هذا الإنجاز ليس خاصاً بك: إنه لنا!
في بداية الألفية الحديثة، كانت كوريا الجنوبية تتقاسم مع اليابان حق استضافة كأس العالم عام 2002، البطولة التي اتُّهمت فيها كوريا الجنوبية بكل الاتهامات التي يُمكن أن تخطر على بالك وما لا يُمكن أن تخطر.
بقاعدة الهدف الذهبي، في دور 16 من البطولة، كان اللاعب الكوري الجنوبي آن يونغ هوان على موعد مع التاريخ حينما سجل الهدف الذي قضى به على منتخب إيطاليا في الدقيقة 117، وهو نفس اللاعب الذي أهدر ركلة جزاء في أحداث اللقاء.
في موجة غضب شديدة وقاسية؛ شنت الصحافة الإيطالية حملات تشويه لدولة كوريا الجنوبية ومنتخبها، ورأت الصحافة الإيطالية أن المنتخب الكوري الجنوبي "سرق" الصعود، ولاعبه الساذج الذي سجل الهدف، لم يفعل ذلك بسبب موهبته كما تزعم الدولة الآسيوية.
لم يكن آن يونغ هوان يعلم أن الهدف الذي سجله في مرمى إيطاليا سيجعله يُحتقر ويُذل في إيطاليا كلها بالمعنى المجازي والحرفي للكلمة؛ حتى وإن كان لاعباً في صفوف أحد الأندية الإيطالية نادي بيروجيا، النادي الإيطالي الذي طلب التعاقد مع المهاجم الكوري الجنوبي بشكل رسمي في عام 2000؛ أي قبل منافسات كأس العالم في كوريا واليابان بعامين.
كان آن يونغ هوان يُعاني في تعلم اللغة الإيطالية، لذلك كان يصطحب مترجمه الشخصي معه في كل مكان حتى في تدريبات نادي بيروجيا، وفي يوم من الأيام دخل غرفة الملابس لاعباً مُتغطرساً له واقعة شهيرة في منافسات كأس العالم بعدها في ألمانيا.
إنه ماركو ماتيرادزي، المدافع الإيطالي الذي اشتهر بنطحة زيدان في نهائي كأس العالم 2006 بين فرنسا وإيطاليا، وهو نفس اللاعب الذي تفوه بنكتة لم يفهمها آن يونغ هوان، لكنه فهم من الضحك الذي انفجر في أنحاء الغرفة أنها تخصه.
حينما طلب يونغ هوان من المترجم الشخصي له أن يشرح ما قاله، شعر المترجم بحرج شديد ثم أخبره بالأمر، النكتة كانت في أن المدافع الإيطالي وصفك بأن رائحتك كريهة للغاية مثل معظم أكلاتكم الآسيوية التي تحتوي على الثوم والبصل.
بعد يوم واحد فقط من إقصاء إيطاليا على يد منتخب كوريا الجنوبية بهدف سجله يونغ هوان؛ خرج رئيس نادي بيروجيا في ذلك الوقت، لوشيانو جوتشي، بشيء أغرب من قصة الهدف وهجوم الصحافة، لقد فسخ رئيس النادي عقد اللاعب الكوري الجنوبي بسبب الهدف الذي سجله!
قال جوتشي إنه لن يسمح لشخص تسبب في إبكاء الشعب الإيطالي أن يمكث ليلة واحدة بقميص أحد أنديتها، وبعد أن هدأ هذا الطوفان من الإيطاليين في حق كل ما هو كوري جنوبي؛ خرج نفس الرئيس يعتذر عن تصريحه وفعلته وقدم عقداً لمدة ثلاث سنوات لآن يونغ هوان، لكن الأخير رفضه وقرر ألا يدخل أرض إيطاليا من جديد.
كان على سون هيونغ مين، أن يكسر هذه الصورة النمطية السيئة بأصعب طريقة ممكنة؛ فكان عليه أن يذوق من كأس مُر شرب منها كل من سبقوه، لكن بدلاً من أن يكسر هذه الكأس أعاد تدويرها على طريقته.
فالنجاح الكبير للنجم الكوري الجنوبي في مجال كرة القدم؛ فتح مجالات أوسع لنجوم آسيويين في مجالات أخرى، وهو أمر تاريخي بالمناسبة ليس حديث الولادة إذا تحرينا الدقة.
في لعبة البيسبول على سبيل المثال: كان إيشيرو سيزوكي وبارك تشان هو، في نطاق لعبة كرة السلة، كان الأمريكي المُجنس جيريمي لين يُعاني من هذه الآفة القاسية؛ أن يُولد الفتى لأبوين مهاجرين من تايوان ثم يستقران في الولايات المتحدة الأمريكية ويُمنح نجلهما حق تمثيل المنتخب الأمريكي في كل محفل دولي.
جيريمي لين كان يعرف أن أمريكا لا تُحب هذه الصبغة على بشرته، وهذه الملامح التي تأتي من أرضٍ قارة عبثت أمريكا بها في أزمنة مضت، وكان يعرف أيضاً أن أمريكا لا تُعامل الكل على نفس القياس في مسطرتها للحكم على البشر، لكنها الحياة وعليه أن يتأقلم عليها كما وجدها!
في مختلف الرياضات يُمكنك أن تسمع هذه العبارات القاسية في حق الآسيويين، تماماً مثلما وصفتهم لاعبة الغولف الأسترالية يان ستيفنسون سابقاً: "أعتذر عما سأقول، لكني سأقوله على أي حال رغم أنه سيضعني في ورطة كبيرة؛ الآسيويون يقتلون لعبتنا، لا يُجيدون التحدث بالإنجليزية حتى وإن كانوا مُضطرين لذلك، يفتقرون إلى التعامل معنا ولا أظن أنهم يفهمون ما نعنيه، هُم بلا مشاعر!".
سون هيونغ مين هو من كسر هذا الحاجز الصلب
يمكنك أن تلتمس هذا التمييز الواضح من أفواه المُعلقين؛ الإنجليز منهم تحديداً، الذين يصفون البشر حسب جنسياتهم وأعراقهم، فيقول معظم المعلقين الإنجليز عن اللاعب الإنجليزي إنه لاعب عبقري، بينما يوصف اللاعب الآسيوي كأنه عِمالة جيدة، اللاتينيون يوصفون بأوصاف تدل على المكر والخداع، ذوو البشرة السمراء عبارة عن وحوش بشرية تركض دون كلل!
كانت مشكلة بارك جي سونغ؛ اللاعب الكوري الجنوبي في فترته مع نادي مانشستر يونايتد، أنه يوصف بأوصاف تُشبه الإنسان الآلي: اللاعب ذو الثلاث رئات، اللاعب الذي لا يتعب من الركض.
حُصرت موهبة بارك جي سونغ في الركض ليس إلا؛ اللاعب الذي حقق 5 ألقاب في بطولة الدوري الإنجليزي الممتاز رفقة مانشستر يونايتد وحقق لقب بطولة دوري أبطال أوروبا مرة واحدة، كان يوصف بأنه آلة ليس إلا.
في استفتاء أخير أجراه الدوري الإنجليزي عبر موقعه الرسمي، عن أفضل لاعب آسيوي مر على تاريخ الدوري، وكانت المفاجأة أن الكوري الجنوبي سون هيونغ مين هو الأول ويأتي مواطنه بارك جي سونغ في المرتبة الثانية.
لكن هذا الأمر لم يُزعج الكاتب الرياضي الكبير البريطاني ديفيد جولبلات؛ الرجل الذي أقر بنفسه بأن ما فعله سون هو ما جعله يتصدر الاستفتاء، ويغلب مواطنه الذي حقق من الألقاب أكثر مما حققه سون، لكن سون هو من استطاع أن يكسر هذه الصورة النمطية للآسيويين، وهو من كان على رأس هذه الحملة التي أبادت هذه الفكرة البدائية عن أبناء القارة الصفراء؛ وآن ليونغ هوان أن يعرف هذه الحقيقة جيداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.