“سنضحك، سنضحك كثيراً”.. عندما يكون الضحك سلاحنا في وجه القمع والظلم

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/07 الساعة 11:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/07 الساعة 11:42 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية - shutterstock

هل حلمت يوماً أن تصير طائراً يحلق بعيداً عن كل ما يزعجك؟ أو حائط صد يقف بينك وبين خيباتك الأزلية؟ أو حتى أن تصبح جماداً لا يلتفت إليك أحد لتختبئ من الأيام وتتخفى عن الأعين؟

هكذا قرر زكريا تامر أن يفعل في قصته "سنضحك.. سنضحك كثيراً". حلّق في فضاء خياله وأصبح كل ما يريد، حطّم أصنام الممكن وهرب إلى المستحيل، تحول وتنكر، والأهم أنه فعل كل ذلك وهو يضحك، يضحك كثيراً. 

زكريا تامر كاتب سوري كبير من مواليد 1931، عانى من ويلات الحروب والفقر، فكانت المعاناه الإنسانية خير معين لخروج تجربته الأدبية التي لا تشبه أحداً، تميز في القصة القصيرة وكتبها بين الرمزية السياسية والفنتازيا، وتحتوي أيضاً كتابته على طابع سريالي بعض الشيء، فأصبحت أقصوصاته عبارة عن لوحات فنية يتذوقها  كل متلقٍّ بطريقته الخاصة. 

قديماً قال أجدادنا: "شر البلية ما يضحك"، هذا المثل اتخذه الكاتب ركيزة أساسية في قصته، فنجد أن الفكرة الرئيسية في القصة تتمثل في البلاء والقمع وكيفية الهروب منهما عن طريق التخفي والضحك، وهذا ما يتفق مع علم النفس الذي يرى أن الضحك والسخرية في أكثر المواقف جدية ما هو إلا تفريغ لكل المشاعر السلبية من حزن وأسى وضعف بشري، عند من لا يقوى على مواجهة المشاكل فيستتر برداء النكتة والتهكم، حتى يتحول الفرد في عقله من مهزوم ومقهور لسعيد، بل أيضاً يتحول لمسيطر على الموقف وقاهر لكل ظروفه بظُرْفِه وسرعة بديهيته، وتكون الدعابة في هذه الحالة هى الملاذ الآمن للعقل لحمايته من الانهيار بسبب الإحساس بالفشل والعجز، وللجسد أيضاً؛ حيث تنأى نسبياً بصاحبها بعيداً عن بطش القوة التي تستبيح كل شيء.

تبدأ القصة "في يوم من الأيام"، يوم لم يحدَّد، قد يكون أي يوم في أي زمان أو كل يوم في الزمن الذي يحكمه الطغاة، ثم ينتقل إلى الثالوث البشري أبطال قصته وهم الراوي وزوجته ورجال الشرطة، يستمر ثلاثتهم في الحركة طوال القصة يتنقلون داخل العديد من الأمكنة، فكل مكان يوجد به مُضطَهَد ومُطارَد ومسلوب حق ومغتصب الإرادة ويتشارك معه الحيز المكاني نفسه من سلبه حقوقه وقيد حركته وتحكم حتى في أنفاسه، استخدم الراوي الأنا في السرد حتى يشعر القراء بمدى قربهم من بطل القصة، وأنه ليس بغريب عنهم، بل إنه واحد منهم، صديق أو أخ لهم، ويتحدث بلسان حالهم جميعاً.

أول مكان كان المنزل؛ حيث حق الإنسان في السكن والهدوء والراحة، لكن سريعاً ما يقتحم رجال الشرطة ليفسدوا هذا الهدوء، ويخربوا العمران وليقبضوا عليهم، لكنهم لم يستطيعوا لأن البطل وزوجته تحولا إلى شيئين، ونجحت خطتهما، ثم ضحكوا كثيراً عندما خرج رجال الشرطة خائبين، ثم انتقلا للحديقة حتى ينعما بالطبيعة وبسحر بلادهما الخلابة، لكن مجدداً هجم رجال الشرطة، ومجدداً أيضاً فشلوا في الإمساك بهما لأنهما تحولا من جديد وزاغت عنهما الأبصار، ثم ضحكا ساخرين.

استمرت المطاردات والتنقل والتحول، مُنعا من المأكل ومن السير آمنين بين شوارع المدينة، ومن كل حق شرع للفرد في وطنه، إلى أن وصلا إلى قبر والدته، فوصل بعدهما رجال الشرطة وقبضوا على والدته المتوفية، أحكموا قبضتهم على جثة من الماضي تمثل كل ما فات، لأنه دائماً ما تريد السلطة الغاشمة تزييف الماضي وإخفاءه لتسطر تاريخاً لم يحدث، بينما الحاضر هارب مطارد، فتحول البطل لكلمات على شاهد القبر، فالكلمات لا تموت، وتحولت زوجته لباقة ورد ذابلة.. وضحكا.

وفي الخاتمة ذهبا إلى المستشفى، ووضعت زوجته طفلهما الذي يرمز للمستقبل بينما يحاول البعض إجهاضه، وانقض رجال الشرطة عليهم لكن لم يمسكوا أياً منهم، فقد تحولوا جميعاً، حتى المولود الصغير تحول لبوق سيارة إسعاف مسرعة لن يهدأ حتى يحصل على حقوقه في هذا العالم، ولن يتوقفوا جميعاً عن الضحك.

الضحك هنا مثل سلاح مقاومة الضعيف في وجه القوي، أو بالأحرى سلاح لا يزهق الأرواح بل يثبتها ويقويها، يمثل تمسكهم بالحياة ورغبتهم بمواصلة العيش فيها رغم كل ما يمرون به، هو المتكأ الذي يحتمي بداخله كل نفس هشة تشعر بالذل والهوان، هذا الضحك هو المتنفس الوحيد لتلك النفس لتصمد أمام من وصفهم الكاتب بالخائبين والأغبياء القانطين البلهاء، فقد ألصق الكاتب كل الصفات البشعة برجال الشرطة رغم ما يملكون من قوة نتيجة لسلطتهم، لكنهم بلهاء لم يستطيعوا إيجادهم، أما وصفه لزوجة البطل فجاءت دائماً تحمل الخير والعطاء والراحة والجمال، أما وصفه للبطل فكان مغايراً، فالبطل منهك غاضب يتحول لسكين حاد تارة، ولغراب أسود لا يقوى إلا على النعيب تارة أخرى، ترمى عليه هموم الوطن ويحاول أن يتحملها كمشجب، كل دوره هو إلقاء الملابس عليه، ويتحول إلى حائط صد حتى تستند عليه زوجته التي ترمز لشركاء الوطن المكلوم، وفي الأخير يتحول لرداء أبيض متسخ مثل أرض وطنه النقية التي دنستها السلطة القمعية، وداست على أبنائها بكل جبروت وتجبر.

بخدع بسيطة وبالحيلة يستطيع الأبطال أبناء هذا الوطن أن يتخفوا ليقاوموا الظلم والبطش بالضحك. في رأيي كانت قصة زكريا تامر قصيرة في عدد كلماتها لكنها ممتدة الأثر عظيمة التأثير في كل نفس ثائرة مكبلة محرومة من حريتها، فكانت قصته مليئة بالألم ويملؤها الأمل.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
مريم أحمد حسين
كاتبة مصرية
تحميل المزيد