منذ القِدَم، امتلأ عالمنا بقصص الهجرة والتنقل البشري؛ حيث يسارع الإنسان دوماً نحو المستقبل بحثاً عن فرصٍ وحياةٍ أفضل. والهجرة ليست مجرد تحرك جسدي، بل هي رحلة استكشافية إلى أبعاد جديدة تنتظر التجربة والاكتشاف. وكما تهاجر الطيور شمالاً وجنوباً بحثاً عن الأمان، يحمل الإنسان طموحاته وتطلعاته في رحلته المغامرة، رغم أنه يترك وراءه أحياناً أحبته ومجتمعه، يبث في نفوسهم قناعة العودة يوماً بالنجاح والخلاص لهم.
الهجرة كمحرِّك للحضارة
لا تاريخ بدون هجرة، فهي فعل محرك للحضارة، إذ بتحرك الشعوب واندماج الثقافات وتبادل الخبرات، تنشأ المجتمعات وتتفاعل مع بعضها البعض.
ولم تختلف أسباب الهجرة من الماضي إلي الحاضر، فكان الدافع وراء الهجرة دائماً البحث عن "الأمان" عن أرض، وطن ذات شروط جغرافية واقتصادية أفضل، فالبعض هاجر بحثاً عن مياهٍ تروي عطشه، والبعض الآخر قرر الهروب من قسوة الشتاء القارس وبرودة الأجواء. وهناك من هاجر نحو أراضٍ صالحة للزراعة ليستثمر في أرضٍ خصبة، تقدم له حياة مليئة بالخيرات.
وفي أوقات الظلم والبطش، كانت الهجرة هي درب الخلاص الوحيد، إذ يهاجر البشر هرباً من بطش عدوٍ جائر، يرتكب أفظع المظالم على أرواحهم وحريتهم. ولا ننسَ الهجرة النبيلة لنبينا الكريم محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي هاجر بحثاً عن الحرية والأمان لينشر رسالة الإسلام السمحة والرحمة في أرضٍ خيرة.
هجرة الترك قديماً.. مثال من التاريخ القديم للهجرات الجماعية
وكمثال على الهجرة القديمة، هجرة الأتراك من منطقة شمال غرب آسيا، إلى منطقة الأناضول، حيث تُشير الدراسات إلى أن هجرة الأتراك لم تكن نتيجة لرغبة الشعب نفسه في الهجرة أو للاستيلاء على مناطق أخرى، بل كان نتيجة لتقلص المساحة الزراعية في أراضي القبائل التركية، إذ كانت قبائل الهون والأوغوز التركية بحاجة مُلحَّة إلى موارد غذائية واقتصادية لازمة للحياة، التي لم تعد تتوافر في أراضيهم الصغيرة. وكانوا بحاجة لمناخ مناسب وثروات طبيعية أكثر، وكان هذا متوفراً في المناطق المجاورة.
بالإضافة إلى المشكلات الاقتصادية، تعرض الأتراك للخطر أيضاً من جيرانهم، فمع ازدياد الضغط على الأتراك من الشرق من قبل الغزو المغولي، تدفّق المزيد منهم إلى آسيا الصغرى؛ حيث أقاموا دويلات صغيرة، من ثم حضارة عظيمة قائمة على التنوع الثقافي من السكان المحليين والمهاجرين.
هجرة السوريين اليوم.. مثال من حاضرنا للهجرات الجماعية
واليوم لا يختلف السيناريو كثيراً، إذ نشهد منذ أكثر من 10 سنوات هجرة الشعب السوري باتجاه الغرب، ففي ظل تدهور الأوضاع الأمنية وانهيار البنية التحتية في سوريا، لجأ الكثيرون من السوريين إلى الهجرة للبحث عن ملاذ آمن، يتجنبون فيه الأعمال العنيفة والاضطهاد السياسي والديني. قلقهم الدائم على سلامة أنفسهم وأحبائهم جعلهم يستعيرون الشجاعة والإصرار للمغادرة باتجاه الغرب، حيث يأملون في إعادة بناء حياتهم بأمان وكرامة.
إضافة إلى ذلك فقد انهارت تماماً كل الفرص الاقتصادية والتجارية في سوريا، مما جعل السكان في مواجهة شديدة الظلم أمام نقص العمل والفقر المدقع والقمع العنيف. لذلك، تحوّلت الأحلام السورية إلى آمال بالوصول لشواطئ الغربية بسلام، حيث يأملون في تحسين حياتهم وتوفير مستقبل أكثر استقراراً لأنفسهم وأسرهم.
التاريخ البشري سلسلة متتابعة من الهجرات
الهجرات البشرية لم تتوقف منذ فجر التاريخ وحتى اليوم. بمعنى من المعاني، يمكن النظر إلى التاريخ البشري بوصفه سلسلة متتابعة من الهجرات. بعض هذه الهجرات حمل الحضارة والنور من مكان إلى مكان. وتأثير المهاجرين والهجرات ليس أمراً طارئاً أو جديداً على العالم. لاحظ أن القوى العظمى في عالم اليوم هي أمة من المهاجرين تعود بدايات تكوينها الأولى إلى القرن السابع عشر.
منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، لم تتوقف الهجرات البشرية عن التدفق بين الأمم والقارات. ولن نخطئ إذا وصفنا التاريخ البشري بأنه سلسلة متتابعة من الهجرات، حيث حمل بعضها حضارة ونوراً من مكان إلى آخر. وقد أثر المهاجرون بشكل عميق ومستدام على العالم، وليس هذا الأمر جديداً أو غير متوقع.
فيمكننا أن نرى أن أكبر قوى عظمى في عصرنا الحاضر هي أمة من المهاجرين نشأت بداياتها في القرن الـ17، وها هي اليوم أهم ما يميزها بأنها تمتلك عقولاً وقلوباً مليئة بالتنوع والخبرات المتعددة.
إن الهجرات البشرية ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي جزء من جوهر الإنسانية والتطور الحضاري. ومن المهم أن نتعلم من تاريخنا وأن نحاول فهم كيف أثرت هذه الهجرات في بناء الحضارات والثقافات المختلفة، وكيف يمكن أن نستفيد من هذا التنوع والتعايش الإنساني في بناء مستقبل أفضل للجميع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.