تمر الحياة لا لشيء إلا لأن من شروطها المرور والاستمرارية وتعاقُب الليل والنهار، لتنقضيَ ظُلمةُ الليل بميلاد فجر يومٍ جديد، لِيحدُث مراد الله في خلق هذه الدنيا بالمُداوَلة والتعاقب.
منذ فجر التاريخ والعمل على تطوير الإنسان لحياته وذاته وطرائق معيشته والاستفادة القصوى منها أمر حيويّ ومهم، فتارة يكون هذا التطوير داخلياً فينبع من رغبة الإنسان ذاته في التغيير؛ طلباً لمعيشة وحياة أفضل، وتارةً أخرى يكون تغييراً وتطويراً إجبارياً رغم أنف الإنسان.
واليوم بات التطوّر التكنولوجي أمراً من أمور الحياة الأساسية، فكيف لنا أن نتخيل أن عمليةً حسابيَّةً أرهقت فيثاغورث فكراً، وأتعبته عَقلاً، في يوم من الأيام، يتم حلّها بضغطة زر واحدة.
هكذا لا بد أن التكنولوجيا قد لعبت وستظل تلعب دوراً مهماً في حل المشكلات أيّاً كان نوعها، ولكن تحت مظلة البحث والتطوير، والذي من الممكن أن يصبح هذا التطوّر سلاحاً ذا حدين، فتارةً نسعد، وأخرى نحزن لذلك كمداً… يا للغرابة! فكيف لكل هذا التطور التكنولوجي أن يُنفّذَ عمليةً حسابيةً من المؤكد من دونه يتم حلها في عقود متتالية… بضغطة زر واحدة؟! وكيف له أن يرسم، ويفكر، ويبحث، ويتقصّى، ويُبرهن في غمضة عين؟!
الذكاء الاصطناعي مصطلح لم يعُد غريباً على المسامع، فإنه قد أصبح أداة حياتية مهمة، بل وأكثر من ذلك، فقد أصبح أساس تطور الحياة وعمودها الفقري في عدد من البلدان كاليابان مثلاً، التي يعتمد عصب حياتها على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي بشكل شبه كلي.
فحتى الفن، لم يعد شرطاً أن تمتلك لوحاً خشبياً، بريشة مبللة ببعض الألوان التي تتماشى مع تصورك الفني، لترسم لوحتك الفنية الخاصة، فالآن أصبح الأمر مختلفاً، فببعض كلمات عبر تطبيق من نواتج التقدم التكنولوجي والذكاء الاصطناعيّ تستطيع رسم أيّ شيء تصوّرته في مخيلتك في أقل من دقيقة.
ما هو الذكاء الاصطناعي؟
الذكاء الاصطناعي هو ببساطة مجموعة من الأجهزة والأنظمة التي تحاكي ذكاء الإنسان فقط لأداء بعض المهام، مع إمكانية قدرتها على التحسن والتعلم الذاتي، فمثلاً إذا طُلبَ من روبوت أن يجمع مجموعة من العبوات في خمس دقائق، فيمكن أن يحسن من نفسه ويأمر نفسه بالقيام بحمل عبوات أكثر ممَّا طُلبَ منه كي يقلل الوقت المطلوب، وبذلك يحمل مثلاً كل العبوات في 3 دقائق فقط، وبذلك يطور من نفسه ومن برمجته، وبالتبعية يوفر على الإنسان وقتاً ومجهوداً. خير مثال على الذكاء الاصطناعي هو الرد الفوري على عملاء الشركة عند التواصل بإيميل الموقع الرسمي للشركة، ورغم أنه أسرع من الإنسان في إنجاز بعض المهام، فإنه لا يهدف إلى استبدال الإنسان بالروبوتات، بل صُنعَ فقط لكي يسهل على الإنسان مهامه.
لماذا الذكاء الاصطناعي؟
يقول براد سميث، الرئيس والمدير القانوني لشركة مايكروسوفت، إن العالم يعاني في هذه الفترة، وسوف يستمر الوضع كذلك… أسفاً وخجلاً، ومازال يعاني من بعض المشكلات والكوارث التي نجمت عن الطبيعة نفسها، أو من التدخل الإنساني غير السوي! وقد أضاف فيما معناه أن الذكاء الاصطناعي وعلوم البينات هما قاطرتا الطريق لنحقق الأمن والسلام العالميّ للبشرية جمعاء، وذلك عن طريق تطويع الذكاء الاصطناعي في خلق ربوت ما- على سبيل المثال- يحل كل مشاكل الإنسان بلا خسائر أو تدمير للبيئة، حيث يعمل هذا الذكاء الاصطناعي بالتعاون مع علوم البيئة، لمساعدة الكثير من الشعوب على تخطي الأزمات، فهذا بعض من كل، وطرفة من لفيف.
ولأن ليس كل ما يلمع ذهباً، يجب أن نحتاط من فكرة الذكاء الاصطناعي، فليس رشداً أن نُكسب أمراً ما ثقةً عمياء مطلقة، وليس عدلاً أن نَسلُبه حقه في التقدير، لكن علينا الحذر، فعلى سبيل المثال أطلقت شركة "وومبو Wombo" الكندية الناشئة عن طريق الذكاء الاصطناعي، منذ فترة ليست بالبعيدة، تطبيقاً يعمل على ضبط التزامن بين حركة الشفاه والصوت في ملفات الفيديو، إذ يمكن ضبط فم المتحدث على ملف صوتي مختلف عن الصوت الأصلي، أو استنساخ الصوت، حيث يتم استنساخ نسخة من الصوت من أجل استخدامها لقول أشياء أخرى.
ولا يتوقف الأمر عند هذا المستوى، بل يمكن أيضاً إنشاء وجوه وأجساد اصطناعية بالكامل، على سبيل المثال صورة رمزية رقمية، لن يكون غريباً بعد الآن أن نجد أنفسنا واقفين أمام أشخاص مشهورين وأحبّائنا المتوفين بفضل تقنية "التزييف العميق". هذه التقنية الحديثة المذهلة التي تسمح لنا باستحضار فيديوهات الأشخاص الراحلين إلى الحياة بصورة واقعية جداً. وقد قام متحف دالي في فلوريدا باستخدام هذه التقنية لاستحضار الفنان سلفادور دالي، الذي رحل عن عالمنا في عام 1989.
ما يضعنا أمام شعورَيْ الانبهار والرعب، فيا للروعة! ما كل هذا؟! إنه أشبه بالسحر، مثله مثل إبداع الإنسان، وذكاؤه مثل ذكاء أبناء آدم، لكن هل تراه يفوقه أم أنَّ هذا مستحيل؟!
الذكاء الاصطناعي إلى أين؟
لكل شيء حدود، مهما كان عظيماً، أو مبهراً، فليس الأمر مفتوحاً بلا نهاية، ومنتهياً بلا بداية، ومستمراً بلا مقصد، لكن كل ما في الأمر أنَّ الذكاء الاصطناعي محدود مَهما كان، ومَهما وصلَ، فأغلب تطبيقات الذكاء الاصطناعي مقيّدة بحدود الحيز المعرفي للإنسان.
إذ يستند عملها على كميات هائلة من البيانات، التي يدرسونها بحثاً عن الأنماط ويتعلمون تكرارها، لكن مَهلاً، هذه النماذج تحتاج إلى قدر كبير من البيانات. يوضح أحد الباحثين- الذي يعمل لحساب إحدى شركات عمالقة التكنولوجيا الممولة جيداً مثل Google- قائلاً: "إنه من الصعب للغاية تصفية هذه المدخلات بشكل شامل، لذلك فهم يستخلصون كميات هائلة من البيانات من الويب، ونتيجةً لذلكَ تستوعب نماذجهم وتتعلم تكرار كل المحتوى السيئ البغيض الذي تتوقع أن تجده عبر الإنترنت".
لذلك تم وضع قيود على أغلب تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بحيث يرسم فقط الصور التي تنمّ عن تخيل إيجابيّ، فإذا كتبتَ كلمات تدل مثلاً على الإباحية أو العنصرية لتحويلها لصورة، فلن يقوم التطبيق بذلك. وتبدو هذه نقاطاً إيجابية بالطبع، بوضع قيود أخلاقية على التطبيقات، لكن بنفس الشكل قد يتم استخدام قيود أيضاً على بعض المعلومات في قضايا سياسية وتاريخية، والأخرى لا، فترسم صورة مشوهة عن الحقيقة.
في النهاية، الذكاء الاصطناعي له وجهان، فكما أن الصواب يرافقه الخطأ كضد، والسماء والأرض، والذكر والأنثى، والحلال والحرام، والسالب والموجب، فإن الذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدين… فليس علينا أن نثق به ثقةً مطلقة حتى لا نُخدع فيه، ولا من حقنا أن نرفضه متزمّتين، ليبقى السؤال عن الذكاء الاصطناعي: ما القادم؟.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.