قبل فترة بسيطة مَرِض والد أحد الأشخاص مرضاً شديداً، فاحتاج المستشفى إلى متبرعين بالدم، فلم يجد صاحبنا من يسعفه بين ركام عزلته، إذ لا تربطه علاقة بأحد، فحار حيرة قملة وجدت نفسها على رأس رجل أصلع لا تدري أين تذهب.
لقد قرر صاحبنا هذا منذ وقت طويل أن يعتزل الناس، بحثاً عن السلام النفسي الذي لا يجده في التعامل مع البشر، وبمنطق ما ذهب إليه بالدليل، وكثيراً ما يستشهد بقول سيدنا عمر بن الخطاب (اعتزل ما يؤذيك)، ولأن الناس في الغالب باتوا مصدراً أساسياً للأذى قررالعزلة والاعتكاف بين جدران منزله، قهوته عن يمينه، وصغاره عن شماله.
أما زميله الذي قرر اعتزال الناس منذ زمن بعيد ونصحه بأن يذهب مذهبه ليجد السلام النفسي المنشود، فقد كبرت ابنته وبدأ الخطاب في طرق بابه، ولا يعرف شيئاً عن أخلاق المتقدمين، ولا يملك الوسيلة المناسبة للسؤال عنهم، فخدعه المظهر عن الجوهر، وفرح بالشكل ونسي المضمون، وها هي الخطبة الثانية وربما الثالثة لابنته الجميلة على وشك الانهيار.
اعتزال الناس قد يفيد بلا شك في بعض الأحيان، لكن العزلة الكاملة تضر أكثر مما تنفع، ذلك أنها ضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فالإنسان كما يقول أرسطو (كائن اجتماعي)، وأيده في ذلك علامة العرب، رائد علم الاجتماع ابن خلدون، حيث يؤكد في مقدمته أن الإنسان مجبول على العيش في جماعة، وليس بمقدوره العيش وحيداً بمعزل عن الناس، مهما توفرت له سبل الراحة والرفاهية.
إن الذين يبحثون عن السلام النفسي مخطئون حين اختاروا العزلة، لأن كلمة إنسان مشتقة من الأنس، أي يستأنس بغيره ممن يعيش معهم، ولأن الإنسان في الأصل موكل بتعمير الأرض وإصلاحها، فكيف يعمرها ويصلحها وهو قابع في بيته؟!
ومخطئون أيضاً لأنهم حين قرروا الاستشهاد بقول الفاروق عمر "اعتزل ما يؤذيك" اقتصروا على ما يُشبع هواهم، ولو كانوا صادقين لأكملوا المقولة، إذ يقول الفاروق "اعتزل ما يؤذيك، وعليك بالخليل الصالح، وقلما تجده، وشاور في أمرك الذين يخافون الله".
ولو قرر كل شخص أن يعتزل الناس فمن يعود المرضى، ويمشي في الجنائز، وينصر المظلوم، ويعين ذا الحاجة؟!
إن الخبرات الحياتية لن تأتي لمعتزل الناس، فهي من نصيب الذين خالطوا الناس أشكالاً وألواناً، وما المشكلات الفردية والاجتماعية التي كثُرت في زماننا إلا بسبب الآراء الشاذة التي طغت على الآراء الأصيلة، واقتصار الحياة على الأسرة دون بقية الأهل، واقتصار الحياة على الأهل دون الجيران، واقتصار الحياة على الجيران دون المجتمع.
لا أعتقد أن صعوبات الحياة المادية هي السبب وراء حالة النفور والشتات المجتمعي، وتفاقم ظاهرة العزلة، ففي مجتمع المدينة الأقرب للمثالية أمر الرسول النساء أن يخرجن لصلاة العيد، حتى الحائض منهن، ولما حُكي له أن بعض النساء لا يملكن جلباباً، أمر من لا جلباب لها بأن تلبس من جارتها وأختها.
روى البخاري (324) ومسلم (890) عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالأَضْحَى الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلاةَ وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِحْدَانَا لا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ. قَالَ: لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا"
مجتمع فقير، لكن كانت لديه وفرة أخلاقية وأدبية، وخبرات حياتية اجتماعية استطاع بها التغلب على صعوبات الحياة وتحدياتها.
إن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم بنص الحديث الشريف، فقِه ذلك الصحابة والتابعون فكانوا خبراء في الوصول إلى المقاصد الدنيوية المحمودة بالحيل النبيلة.
"الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسُ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ؛ أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ." رواه أحمدُ والبخاريُّ في الأدبِ المُفرَدِ، والتِّرمذيُّ وابنُ ماجهْ عن ابنِ عمر.
فكان أبو بكر الصديق علامة بأنساب العرب، ويعرف مكامن الشر، ومواقع الخير، والفاروق عمر يقول: لست بخب (الرَّجل الخدَّاع) ولا يخدعني الخب، وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من أكثر الناس ثراء، وكان عثمان رضي الله عنه من أكثر الخلق مالاً في زمانه، بينما كان علي رضي الله عنه خبيراً بالنفوس البشرية، حكيماً، وكان سيدنا حذيفة بن اليمان أعلم الناس بالشر والفتن، وكل ذلك مردّه إلى الخبرة، التي لا تأتي إلا لِذي قلب سليم وسعي حثيث بين الناس.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.