لا أملك إلا أن أثمِّن الخطوات التي أقدمت عليها الجامعات المغربية، حيث إنها ولأول مرة تعتمد تعزيز تخص علم النفس داخل الجامعة، إذ إنه في هذا العام فقط، ستصبح مادة علم النفس تدرس على شكل تخصصات مختلفة في علم النفس، على مستوى الإجازة، بعدما كان ذلك مقتصراً على سلك الماستر فقط، حيث إن هذا العام تم الإعلان عن فتح مسالك علم النفس ببعض الجامعات لأول مرة مثل جامعة عبد الملك السعدي بتطوان، كما أن المادة ستصبح أكثر تخصصاً من ذي قبل، ما بين علم النفس التطبيقي، علم النفس المعرفي، علم النفس الاجتماعي، وكذلك علم النفس الإكلينيكي، هذا على مستوى الإجازة فقط، وتشهد الجامعة أيضاً اعتماد عدة ماسترات جديدة أيضاً، المغرب مثل باقي الدول العربية الأخرى، لم تكن فيه الصحة النفسية تحظى بالأهمية، التي تحظى بها الصحة الجسدية، هذا ما جعلني منذ مدة أطرح السؤال الآتي: وهو لمَ نخشى زيارة الطبيب عموماً، والطبيب النفسي على وجه الخصوص؟ أترانا نخشى المرض؟ أم نخشى وصمة العار التي ننعت بها من قبل المجتمع؟!
لنبدأ هذا المقال بقصة شخصية، حدثت لصاحبه، قبل سنوات زرت طبيب أسنان، من أجل العلاج، وصف لي بعض الأدوية، ذهبت لاقتنائها من الصيدلاني، بعدما ناولني كيس الأدوية تطلع إليَّ بنظرة لم أنسَها إلى اليوم، ودعا لي بالشفاء، ونظرات الشفقة واضحة في عينيه، فبدأت أتساءل مع نفسي: هل تراني أستحق كل هذه الشفقة، إنه فقط سن أصابه التسوس، بل لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل حتى بعض زملاء الدراسة، وهم يرونني أحمل كيس الأدوية، يكررون نفس تصرف الصيدلاني، كانت تلك التصرفات تصيبني بالتوتر، حتى قررت أخذ الأدوية، على حين غفلة منهم، وبهذا استطعت تجاوز نظراتهم المشفقة، غير أن السؤال ظل يحيرني: لمَ نخشى الذهاب إلى الطبيب، وما العيب في أن نقول إننا مرضى؟! قد يبدو أن ما أكتبه هنا هو مجرد سرد لقصة قد يرى البعض أن لا فائدة فيها، لكن صدقني الأمر خلاف ذلك ويدعو للقلق فعلاً.
لا أريد الحديث هنا، عن مشكلة الخوف من المرض، أو الذهاب للطبيب، أو حتى الاعتراف أمام الناس بأنك تعاني من مرض ما، الحديث عن هذا الأمر يطول، بل وربما يحتاج إلى دراسات في الموضوع تكشف الستار عن السبب الحقيقي وراء ذلك، لكني أود الحديث عن أمر آخر، وهو الذهاب إلى الطبيب النفسي، طبعاً إذا كان الناس يخشون الذهاب إلى الطبيب العام، فالذهاب إلى الطبيب النفسي، قد يعد ضرباً من المستحيل، وقد ينعت صاحبه بأن به مساً من الجن، غير أن الغريب في هذا الأمر أنه لا يقتصر على شعوبنا العربية فقط، بل الأمر يتعداها، إلى شعوب أخرى، وخاصة المجتمع الغربي، الذي سبق لكاتب المقال أن اطلع على دراسات تتحدث عن ذلك، بل وربما قد يكون هذا الأمر في المجتمع الغربي أكثر، فإذا كان الأمر يقتصر هنا على وصمة العار، فالأمر هناك قد يتعداه إلى النبذ، بل وربما الحرمان من بعض الحقوق قد تكون أساسية مثل الشغل.
القرار المشار إليه أعلاه بتعزيز تدريس مادة علم النفس بالجامعات لم يأتِ سدى، بل هناك تقرير سبق أن نشره المجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي المغربي، يظهر بيانات قد تكون مخيفة بشأن الصحة العقلية للمغاربة، حيث أشارت الهيئة أعلاه إلى أن نصف المغاربة تقريباً يعانون من اضطرابات نفسية، أو على الأقل سبق لهم أن عانوا منها، هذه الفئة ولا شك هي من تلك التي تزور الطبيب، فما بالك بأولئك الذين لا يحبذون الذهاب إلى الطبيب، حيث إن هذا الرقم بكل تأكيد هو مرشح للارتفاع، هنا يمكننا أن نتساءل: كيف يعيش هؤلاء، أو كيف يتعايشون مع هذه الاضطرابات؟ لا شك أن من يلاحظ الكثير من السلوكات الغريبة في الفضاءات العمومية، لا ينبغي أن يقلق بعد معرفة هذا الأمر.
مثل هذه الأرقام المتعلقة بالصحة العقلية في المغرب، لا تستغرب من قبل الباحثين، حيث إن البحوث تؤكد أنه في العقود القادمة، ستكون الأمراض النفسية متصدرة الأمراض الأخرى، وهذا ما جعل الدول تتخذ خطوات استباقية، من أجل الحد من أضرار هذه الأمراض، خاصة الشديدة منها مثل الاكتئاب، الذي قد يقود الأفراد إلى إنهاء حيواتهم، وربما بعض حالات الانتحار، التي نسمع من حين لآخر هنا وهناك، قد تكون ما هي إلا مؤشرات لما هو قادم، وخاصة إذا ما عرف أن الأرقام تشير إلى أن الاكتئاب سيكون هو مرض العصر الجديد، والذي إذا لم يعرف تدخلاً في الوقت المناسب، قد يقود صاحبه إلى تدهور صحته العقلية، مما قد يفضي به إلى إيذاء نفسه.
طبيعة التحول التي يعرفها المجتمع، هي السبب الرئيسي وراء هذه الاضطرابات، خاصة مع دخول المجتمعات العربية، إلى المرحلة الصناعية على تفاوت بينها، كما أن للتقنية دوراً في ذلك، حيث إن آخر التقارير تشير أيضاً إلى أن من بين أهم أسباب الاضطرابات النفسية، هو وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة تطبيقات إنستغرام وتيك توك وغيرها، وهذا ما جل الساهرين على الشأن التربوي في أمريكا مثلاً، يوصون بتقليص مدة استخدام هذه التطبيقات، بالنسبة للمراهقين، والشباب، حيث إن ذلك يعود سلباً على صحتهم النفسية، للأسف هذا الأمر نفسه ينطبق على العالم العربي، ومع استمرار ظاهرة التخوف من الذهاب إلى المعالج النفسي، فإن هذا الأمر قد يتفاقم.
الأسباب كثيرة وراء هذا التخوف، وكما سلف، فإن الأمر لا يقتصر على مجتمع بعينه، من بين هذه الأسباب هو شيوع تصور خاطئ عن المعالج النفسي، من قبيل أنه لا يذهب إليه إلا المجانين، حتى مصطلح مجنون هو ليس مصطلحاً علمياً، ولا يتداول في حقل العلاج النفسي، تستعمل مصطلحات من قبيل نوبات جنونية، لكن هذه لا علاقة لها بما هو ماثل في المخيلة الشعبية، بل تشير إلى حالة من الانفعال يفقد فيها الشخص السيطرة على سلوكه، ولا علاقة لذلك بالجنون أو المس، لكن الإصرار على استعمال مصطلحات من هذا القبيل يزيد من تخوف الناس من الذهاب إلى المعالج النفسي خشية وصمة العار، وفي المقابل يفضلون الذهاب إلى المعالج الروحي، تحت ذريعة أنه يداوي بالقرآن، فإذا كان الشخص يعتقد أنه مجنون أو أصابته العين، فإن العلاج هو القرآن طبعاً، وبالتالي فإنه قد يشعر ببعض التحسن، ويحافظ على كرامته في الوسط الاجتماعي، لكن الحقيقة هو أن حالته غالباً ما تؤولُ إلى الأسوأ.
لا داعي هنا لأن نسرد قصصاً تعضد هذا الأمر، لكن يكفي الإشارة إلى أن الكثير من هذه العلاجات التي يعتقد الناس أن المعالج الروحاني يملكها، قد تكون مجرد تلبية لحاجة ماسَّة لهذا الشخص، من مثل إعطائه شعلة أمل إن كان يعاني من اضطهاد، أو في أحيان أخرى تلبية بعض الرغبات قد يكون المريض محروماً منها، قد تكون بسيطة مثل الحديث، أو تأكيد الذات، أو في بعض الأحيان تلبية بعض الغرائز الطبيعية، مما قد يجعل الأشخاص يقعون في فخ النصب.
أود القول مما سلف إن هؤلاء لا يملكون حلولاً سحرية للمشاكل، بل هم فقط يتمتعون بذكاء اجتماعي، ويعرفون كيف يتعاملون مع زبائنهم لا غير، وفي الأخير هم لا يملكون طرقاً علمية للعلاج، بل شيوع هذه الظواهر بكثرة، هو ما يجعل الناس لا يفكرون في الحلول المثلى لمشاكلهم، بذل الإيمان بالخرافات، ومن ثم هذا يزيد صعوبة تقبل المجتمع للطرق التي يقترحها علم النفس للعلاج، كما أن السينما والإعلام لعبا دوراً رئيسياً في هذا الأمر.
إذا ما عرف الناس حق المعرفة دور المعالج النفسي، فإنهم ولا شك سيتقبلون الأمر برحابة صدر، ويزول الإشكال، فالمعالج النفسي هو البديل العلمي للمعالج الروحي في الزمن القديم، صحيح أنه هو نفسه لا يملك طرقاً سحرية للعلاج، لكنه يملك لحد الساعة أفضل الطرق العلمية للعلاج النفسي، هذه المهمة التي تعد أعقد المهام، كما أنه لا يعني أن من يذهب للمعالج النفسي، أن به مساً أو مرضاً، بل قد يكون مجرد توتر، أو صدمة أو غيرها، أو سلوك إدمان أو غيره، فتصورنا لعلم النفس على أنه ذلك العلم الذي يدرك أسرار النفس، ويطلع على خباياها، هو الذي يزيد من تفاقم الوضع أيضاً، حيث إن علم النفس لا يتعدى أن يكون علم السلوك، يحاول فهم مصدره، وما العوامل المتحكمة فيه، ومن ثم إذا ما انحرف هذا السلوك فإنه يساعد الشخص على تقويمه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.