من الأحداث التي ترغمك على متابعتها والألم يعتصرك الصراع العبثي بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع (تأسّست عام 2013) السودانيين والذي انفجر في 15 أبريل/نيسان 2023، بعد توتر وتراشق إعلامي كبيرين وبدأ باشتباكات عنيفة داخل العاصمة الخرطوم انتقلت بعدها إلى مدن أخرى، وما زالت مستمرة إلى يومنا وتتوسع أكثر فأكثر لتمس مناطق ومدناً مختلفة، ولتنتقل شرارتها إلى أطراف ودول أخرى، وتحت عنوان "يخربون بيوتهم بأيديهم" نتج عن هذا الصراع العدمي خسائر فادحة في الأرواح قدرت في آخر إعلان للأمم المتحدة بأكثر من 3 آلاف قتيل أغلبهم مدنيون، وما يقارب الــ3 ملايين نازح داخل وخارج البلد، رافقها دمار هائل للبنية التحتية الضعيفة والهشة أصلاً، مع انقطاع تام للخدمات الأساسية عن السكان، ولك أن تتخيل وقوع كل هذا في إحدى أفقر دول العالم، مع غياب ما يشير إلى توقفها، فإن فاتورة الخسائر ستكون ضخمة وقائمتها مفتوحة.
نظرياً لا يوجد سبب حقيقي لاندلاع هذه الحرب التي لا معنى لها، فكلا الجنرالين من نفس المعسكر متشبعان بنفس ثقافة الطغيان القائمة على قاعدة "ما أريكم إلا ما أرى" ووسيلتهما الوحيدة في الإقناع القوة ولاغيرها، كما اشتركا في الإطاحة بولي نعمتهما الجنرال عمر البشير، وعملا في نفس المسار السياسي بالشراكة مع المكون المدني وانقلبا عيله معاً، وحتى 15 أبريل/نيسان كان البرهان رئيساً لمجلس السيادة وحميدتي نائباً له، وكطبيعة الفتن وأمام هذا الكم الهائل من الأحداث المتسارعة والتصريحات المتناقضة لكلا المعسكرين يصبح الحليم حيران ويعجز عن قراءة الأحداث فما بالك باستشراف مآلاتها.
واقعياً يُقدم الخلاف التقني حول مدة وكيفيات إدماج أفراد الدعم السريع في صفوف الجيش كسبب مباشر لصراعهما الدامي رغم ما كان يبدو من اتفاقهما على مبدأ تفكيك قوات الدعم السريع وإدماج عناصرها ضمن قوات الجيش، حرصاً طبعاً على حصر "العنف الشرعي" في جهة واحدة!، لكن هل يعقل أن يدمر السودان ويقتل ويشرد شعبه لمجرد خلاف تقني يمكن للجنرالين حله على طاولة عشاء بحضور بعض العقلاء؟!، ومحاولة الجواب عن هذا التساؤل يحيلنا إلى محاولة تفكيك منطلقاتها وخلفياتها الحقيقية في ما يلي:
1-المُلك عقيم: في عرف وثقافة الاستبداد الذي أصبح عندنا بفعل الجهل وغواشي التاريخ مرادفاً لثقافة الحكم، كانت ولا تزال نظرية "المُلك عقيم" هي القاعدة للوصول إلى السلطة أو تثبيتها، فشهوة الملك قاتلة وسطوته غالبة، والسلطة في هذه الظروف لا تقبل القسمة، فالبرهان بصفته قائداً للجيش من الطبيعي أن يرى نفسه الحاكم بأمره وكل من سولت له نفسه منازعته فمصيره ما رُوي عن هارون الرشيد محدثاً ابنه المأمون: "يا بني المُلك عقيم، ولو نازعتني أنت على الحكم لأخذت الذي فيه عيناك (يقصد يقطع رأسه)"، فمن كان العنف هو وسيلته للوصول إلى السلطة فلن لا يتنازل عنها إلا بعنف أشد، وكما قيل: "ما سُل سيف على شيء مثلما سل على الملك والسلطة"، وهذه الخلفية العقدية هي نفسها عند حميدتي ومن يدعمه.
2- من يزرع الريح لا يجني إلا العاصفة: حرص الحكومات على احتكار العنف الشرعي ووسائله من البديهيات، وأي سلطة في العالم مهما كان شكلها أو طبيعتها تحرص أشد الحرص على ذلك، لكن ما وقع في السودان واستمراراً للسقطات الاستراتيجية لحكم العسكر وجنرالاته شَكَّل البشير قوة موازية للجيش ممثلة في ميليشيا قبلية عُرفت بـ(الجنجويد) سماها لاحقاً قوات الدعم السريع ودستر وجودها ومهامها. وكما أخبرنا التاريخ تغولت هاته القوات مع ما تلقته من دعم خارجي مباشر وبانخراطها في استثمارات ضخمة عبر شركات يمتلكها قادتها خاصة في تعدين الذهب، تجارة الماشية ومقاولات لإنجاز مشاريع البنى التحتية، تدر عليهم وعلى كفيلهم الخارجي أرباحاً خيالية زادت في انتشائهم وقناعتهم بإمكانية السيطرة على السلطة وعسلها. والمتابع لتحركاته الأخيرة يظهر أن حميدتي نفذ خطة واضحة حرص خلالها على محاولة كسب الوقت بتعطيل إدماج قواته تحت مظلة الجيش، ومحاولة كسب ثقة المكون المدني وتحويله إلى بوق دعائي لصالحه بتقديمه كمناصر للديمقراطية والحكم المدني، بالموازاة عمل على تقوية ميليشياته بتحسين معداتها وأسلحتها ومضاعفة أعدادها، في مقابل جيش معتد بقياداته ومطمئن لقوة نيرانه وقدراته على حسم أي صراع..
3-الحرب الخاطفة مرة أخرى: تاريخياً تكرر فخ الحرب الخاطفة التي تتحول إلى طويلة على غير ما خطط لها مشعلوها، فهاهي روسيا عاشت على وهم عملية عسكرية خاطفة بغزوها لأوكرانيا انتهى بها غرورها إلى الغرق في وحل حرب لا حدود لخسائرها المدمرة وهي في سنتها الثانية ولا تبدو لها نهاية، وبما أن الروس من اللاعبين على أرض السودان عبر ميليشيا فاغنر، فالظاهر أن لوثة الحرب الخاطفة أصابت حميدتي الذي كان تحركه بما يشبه الانقلاب، حيث سيطر على التلفزيون الرسمي، كما سعى للسيطرة على مقرات قيادات الجيش، الجسور والمعابر الرئيسية في العاصمة السودانية.. وغيرها، واكتملت بذلك عناصر الانقلاب الكلاسيكي، قابله رد للجيش غلب على تصريحات قياداته منطق الرد الخاطف واعتدادهم بقدراتهم على حسم الحرب والقضاء على المتمردين في ساعات، والنتيجة تدمير البلد ومعاناة المدنيين ودفعهم لفاتورة ثقيلة لحرب عدمية لا يعلمون سببها ولا من سيستفيد من هلاكهم ودمارهم…؟!!
4- ومنه فحقيقة هذه الحرب بسيطة لكنها مرعبة ومنطلقها ومستقرها واحد وهو الصراع الأبدي حول السلطة، النفوذ والثروة، يضاف إليه في الحالة السودانية الدور الطاغي للداعمين وحلفاء الخارج في تأجيج الحرب واستمرارها، أما الوطن والمواطن ومقدرات الأمة المبددة فهي تفاصيل يدوسها صاحب الحذاء الخشن متى شعر أنها تعترض طريقه أو تعطل مسعاه نحو جنة الحكم وثمارها.
فالبلدان التي يملكها العسكر ويمثلون مصدر الشرعية فيها هذا مصيرها أو أسوأ والسودان بالمناسبة لا يمثل الاستثناء، فكل شعوبنا معرضة للقتل والتهجير في أي لحظة، والغريب أن الضامن الوحيد لحالة السكون الحالية هي احتكار السلاح والقوة التي تحوّلت بفعل ثقافة الاستبداد والعدمية إلى نعمة ندعوا الله أن يديمها علينا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.