في رواية "عالم جديد شجاع" يرسم ألدوس هكسلي صورة قاتمة لعالم تحت السيطرة، تجري حثيثاً محاولة تفريغه من الطفولة التي يراها القائمون على الأمر مضيعة للوقت والجهد، لذا يحاولون تقليل مدتها قدر الإمكان، بل تُجرى تجارب على الأطفال كي تربط أذهانهم بين القراءة والأزهار من ناحية والفزع والانزعاج والخوف من ناحية أخرى؛ ليتشكل لدى الأطفال -في انعكاس شرطي- كره غريزي للكتب والأزهار، حتى يتفرغ هؤلاء الأطفال منذ اليوم الأول لما تم إعدادهم له من وظائف محددة تم التدخل جينياً لتهيئتهم لها وهم أجنة، كانت لدى هكسلي ذكرى مريرة ربما هي التي دفعت لصياغة هذا الخيال القاتم، لقد غادر فرح الطفولة الصافي في الثامنة من عمره لينتظم في صفوف مدرسة داخلية بعيدة عن بيته الذي كان محاطاً بالأشجار وشهد لعبه ومرحه وخياله المسافر، بالتأمل نجد أنه لم يكن خيالاً قدر ما هو استشراف متشائم لمستقبل البشرية في ظل تنامي الرأسمالية والتقنية، وتغلب الأرباح على الفن والأدب والحرية وتفرد الذات، فهل يمكننا الإعلان الآن أننا صرنا في عالم بلا طفولة كي نبارك لأصحاب رأس المال وقادة العالم الحديث؟
يؤسفني القول إن ملايين البشر، وبطريقة آلية وتماشياً مع نمط العصر الحديث في التربية، يشرفون على عملية قتل الطفولة في أبنائهم، تتم عملية القتل تحت ذريعة الإعداد لمستقبل واعد، قاصدة غاية هي الأسطورة الحاكمة في زمننا هذا هي إخراج إنسان لائق اجتماعياً، ويُقصد بذلك الإنسان الذي ينال الاعتراف والحظوة عند الآخرين، والذي يلبي معايير الجودة التي يفرضها المجتمع، فقد صارت لكل شيء مقاييس صارمة لا أحد يعلم كيف ومتى تُصنع، فقد بات المنتظَر من الإنسان تحقيق عدة معايير على صعيد جسده ومعرفته ولغته وممارساته ودخله وإنجازه تتماشى مع ما هو مطلوب من سوق العمل ومجتمع الفرجة، وبات تعريف الإنسان الناجح ذا تكلفة عالية لا يقدر عليها سوى من يبدأ مبكراً جداً في الانخراط ضمن صفوف تطوير الذات وتأهيلها للمكانة المرغوبة، فمنذ قرن تقريباً وذلك الانخراط يزحف رويداً رويداً نحو مقتبل العمر، حتى بات على الأطفال منذ اليوم الأول الانخراط في تلك الآلية التي تستعبد الإنسان وتقيده وتمنع حركته خارج فضائها المجحف.
وقد يسأل سائل ويقول: وما المُجحف في ذلك وقد صيغت طرق التربية والتعليم في العصر الحديث كي تخرج إنساناً أقوى قادراً على التعامل مع الحياة واكتساب الخبرات وتحقيق الرغبات؟ وما دام الإنسان سيصبح عاجلاً أم آجلاً صاحب مسؤولية يتوجب عليه القيام بها، فلماذا لا نُعده لتلك المسؤولية منذ يومه الأول؟ وما الضير في تربية الأطفال على ما سينفعهم لاحقاً؟ ما الذي يمنع تعليمهم المهارات واللغات والممارسات المناسبة لسوق العمل لاحقاً والمُعززة لمكانتهم الاجتماعية؟
وتلك أسئلة مشروعة، لكنها محدودة النظرة والأفق؛ لأنها صادرة عن نظرة أحادية للإنسان ومتطلبات عيشه، الإنسان ليس جسداً مادياً ولا رغبة نفوذ وامتلاك، هناك أبعاد أخرى يجب أخذها في الاعتبار حين التعامل مع حياته، أحد تلك الأبعاد، بل وأكبرها أهمية، هو تلك المساحة المثلثة الممتدة بين الخيال والشعور والذاكرة، والمسؤولة عن فرادة الإنسان ودوافع وجوده الأعمق، وقوة تحمله للآلام، ورصيد الفرح الممتد في عمره، المساحة التي يكتشف فيها نفسه ويعلن فيها عن وجوده ويمارس فيها حريته قبل أن يجبره تحمل المسؤولية على التقيد بمسارات المجتمع وواقع الحياة مع الناس، هذه المساحة لها علاقة وثيقة بالطفولة التي صرنا نتدخل فيها بطريقة فجة، فما حدود تلك العلاقة؟
الطفولة.. رصيد الفرح وذاكرة الروح
"ولا تزال الجَنَّةُ مع الطفل، حتّى إذا كبُر قيل له كما قيل لآدم: اهبط منها".
مصطفى صادق الرافعي
يُعرّف الشاعر الفرنسي آرثر رامبو العبقرية بأنها قدرة المرء على استعادة الطفولة كما يشاء، وفي ذلك تكمن القدرة على مقاومة قسوة الحياة وثقل الواقع، فالطفولة هي النبع الذي نظل نستقي منه ذاكرة الفرح ورصيد الأنس ومراكب الخيال، بل وحقيقة ذواتنا التي تتعرض للتيه كل حين. لذا فإن إبراهام ستوزكيفر يرى أنك إذا حملت طفولتك معك، فلن تكبر أبداً، ويرى شاعر الوجودية راينر ماريا ريلكه أن على المرء اللجوء إلى طفولته في أحلك الظروف؛ فهي الجوهرة التي لا تقدر بثمن، وفي الطفولة نعثر على تفردنا؛ كوننا نعرف أشياء لا يستطيع الآخرون معرفتها. بينما يقول كارل يونغ مؤسس علم النفس التحليلي، عن نفسه: "عندما كنت طفلاً، شعرت بأنني وحدي، وما زلت، لأنني أعرف أشياء ويجب أن ألمح إلى أشياء لا يعرفها الآخرون على ما يبدو".
في الطفولة نحن أحرار من التفكير في المستقبل والقلق بشأنه، تغلفنا البراءة ونعيش في عمى مرحلي عن طبيعة الحياة القاسية، وهذا ضروري لتكون لدينا ذكريات فرح ومواطن تعرفنا فيها على ذواتنا دون خوف أو تردد، أحرار نحن نجري ونلعب ونكتشف الأشياء التي تبدو لنا غامضة فيما هي مكشوفة للكبار، نتحلق حول الجدات ونسافر مع حكاياتهن ونبيت في المذاق الحلو لطعامهن، هكذا يجب أن تكون طفولتنا قبل أن ننخرط في الحياة المعاصرة المكبلة بالواجبات المقتولة بالتنظيم، فماذا نفعل في أطفالنا حين ندخلهم مبكراً في تلك الدائرة؟ ندفعهم دفعاً لخسارة أهم ما تحتاجه أرواحهم مستقبلاً، بل نجردهم من مواطن الإبداع وإحساس التفرد والحرية مقابل أن نهيئهم لسوق العمل والعلاقات الاجتماعية المرغوبة، وغالباً تدفعهم المشكلات النفسية الناشئة عن خسران الطفولة إلى الفشل في تلك الأمور أيضاً، ومن ثم الفشل في الحياة كلها.
الحق في اللعب
اللعب حق أصيل للطفل، وقد يعتقد البعض أن انتظام الطفل في تعلم رياضة أو ممارسة تمارين بشكل دوري نوع من اللعب، وهذه مغالطة، فاللعب يحتاج إلى الحرية والبراح والفوضى والاكتشاف بعيداً عن القواعد والتنظيم، يحتاج الطفل إلى مرحلة يتعامل فيها مع كل شيء بنفسه، يحتاج أن يلعب بالكلمات والنجوم والأصوات والأوراق المتساقطة، يحتاج أن يشعر بمتعة الخطأ والصواب معاً، وهو يشعر أنه لا شيء مطلوباً منه، من هنا يمر بما سيكون رصيداً للفرح في حياته ولقوة عزمه وتفرد ذاته، ستمثُل الطفولة لنا دوماً كوننا بشراً بعيداً عن تنظيمات الحياة الحديثة المكبلة للوجدان والتعبير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.