السخط حيال التعديلات القضائية داخل إسرائيل يدق ناقوس الخطر، ويدخل الإسرائيليين في حالة من التخبط خوفاً على دولتهم المسخ من الانقسام، فبعدما كان جيش الاحتلال بمثابة "بقرة مقدسة"، أصبح اليوم في قلب الخلاف السياسي، ليبشر بموت قدسيته.
احتلّ جيش الاحتلال، بعد قيام الكيان، مكانةً ساميةً داخل المجتمع الإسرائيلي، لا يُسمح لأحد أن يوجّه لها النقد، وكانت صورته في عقول الصهاينة أسطورة لا تُهزم استطاعت أن تهزم الجيوش العربية وأن تقيم كيانهم دون منازع لها، ما جعله محل إجماع كل الصهاينة، ومصدراً لتماسك المجتمع الإسرائيلي الهش في جوهره، إذ ارتكز على استراتيجية "بوتقة الصهر" التي تبناها بن غورين أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال؛ لصهر اليهود الشرقيين والغربيين في بوتقة واحدة، عندما خشيَ أن تسبب الاختلافات بينهم حالة انقسام وتشرذم داخلي.
تتهاوى اليوم أسطورة الجيش الذي كان لا يقهر وتتفكك معها "بوتقة الصهر"، إذ أصبح المجتمع الإسرائيلي يشعر بعجز الجيش عن تقديم الحماية المطلقة له، وخصوصاً بعد الضربات التي تلقاها من المقاومة منذ أن انسحب من جنوب لبنان عام 2000 ثم من غزة عام 2005 تحت ضرباتِ المقاومة، ثم توالي الهزائم التي تلقاها في الحروب التي خاضها مع غزة بعد ذلك، فكلما حاول استعادة أسطورته وقوة ردعه سقط بصورة أكبر، حتى فرضت المقاومة قواعد اشتباك جديدة لا تسمح للعدو بتجاوزها.
وقد تكللت هزائم جيش الاحتلال بشكل أوضح في معركة "سيف القدس" عام 2021 التي رسخت لمبدأ "وحدة الساحات" الذي أرّق الاحتلال وأربك حساباته، ففرضت المقاومة في غزة نفسها على طاولة صناع القرار في الكيان، في كل خطوة يخطوها في القدس أو الضفة، وأصبح الجيش الذي كان لا يقهر يحسب ألف حسابٍ خوفاً من استفزاز غزة؛ لينقلب السحر على الساحر، ليصبح الجيش أو بوتقة الصهر، كالبقرة العقيم تُغرس السكين في رقبتها بعد كل جولة يخوضها.
وتكشف الأزمة السياسية التي تعيشها دولة الاحتلال مدى هشاشة الجيش داخلياً، إذ إن في جوهرها صراعاً على النفوذ والمصالح الشخصية والحزبية، فقد أبلغ رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي، الأسبوع الماضي، القادة السياسيين، بأن "ضرراً حقيقياً سيصيب كفاءة الجيش خلال 48 ساعة حال تمرير خطة التشريعات القضائية، رغم ذلك أقر "الائتلاف القومي الديني"، بزعامة بنيامين نتنياهو، المرحلة الأولى من خطة التشريع، ليمضي بذلك في تمزيق المحكمة العليا والانقلاب عليها؛ لإطلاق يد الحكومة اليمينية المتطرفة وإعطائها صلاحيات واسعة، وفي المقابل تصر المعارضة على إيقافها بأي ثمن كان، على اعتبار أن المحكمة العليا هي آخر معاقلها.
بعد تمزيق أسطورة الجيش الذي لا يقهر خلال الحرب الأخيرة، لم يعد يجتمع عليه كل الأطراف داخل إسرائيل، بل دخل الجيش في قلب الخلافات السياسية، وأصبح جزءاً من الأزمة السياسية، وانقسم بين مؤيدين لليمين ومؤيدين لليسار، بل وصلت حالة الأزمة في جيش الاحتلال، إلى إعلان الآلاف من جنود الاحتياط الامتناع عن الخدمة العسكرية في كافة فروع الجيش، وخاصة في سلاح الجو ووحدات النخبة والمخابرات، وبدأت التحذيرات من تراجع الجيش وانهياره، الأمر الذي دفع وزير العلوم الإسرائيلي بالقول إن ما "نشهده هو محاولة انقلاب عسكري".
قبيل إقرار أولى التعديلات القضائية بتمرير قانون إلغاء حجة المعقولية، الذي يسحب من المحكمة العليا حق الاعتراض على قرارات الحكومة، أعلن ما يزيد عن 10 آلاف جندي من جنود الاحتياط الامتناع عن الخدمة، انضم إليهم بعد تمرير القانون 700 طيار من بينهم 200 ضابط في سلاح الجو، وتجدر الإشارة إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يعتمد في تركيبته بشكل كبير على المتطوعين من جنود الاحتياط.
وعبَّر نتنياهو عن خطورة الأمر بقوله: "إن التهديد بالإمتناع عن الخدمة العسكرية يهدد بشكل مباشر أمن جميع مواطني "إسرائيل"، ويقضي على قوة الردع"، ونقل المحلل العسكري في صحيفة هآرتس عاموس هارئيل "أنهم في هيئة الأركان العامة قلقون من الأضرار التي تسببها أزمة الانقلاب القضائي على التماسك الداخلي بوحدات الجيش، وحسب قول كبار الضباط فإن الأضرار أصبحت ملموسة"، وقد أعلن جيش الاحتلال بعد تمرير قانون إلغاء حجة المعقولية، أن عملية تآكل قدرته على خوض الحرب قد بدأت، وأنه سيحدث الضرر فيها بغضون أسابيع، ما دفع الحكومة الإسرئيلية للترتيب لعقد اجتماع لمناقشة الأمر، في سابقة في تاريخ الكيان.
لقد تداعت قدسية الجيش الإسرائيلي وبدأ يتلاشي دوره كعمود فقري للوحدة والاستقرار الداخلي، لكن ذلك لا يعني أن جيش الاحتلال سينهار اليوم أو غداً أو بعد غد، فلن يستطيع الجنود النظاميون الامتناع عن الخدمة بسهولة كما يفعل جنود الاحتياط، وحتى جنود الاحتياط أنفسهم جزء كبير منهم من مؤيدي التعديلات القضائية، وهناك شكوك بمدى صدق نوايا الجنود الذين أعلنوا الامتناع عن الخدمة؛ هل سيمتنعون عن الخدمة فعلاً في حال قيام الجيش بعدوان على جبهة من الجبهات؟ بالإضافة إلى ذلك، يظهر الآن مدى الاهتمام الأمريكي بالأزمة السياسية داخل إسرائيل، إذ هناك مساعٍ حثيثة من الإدارة الامريكية لإنقاذ دولة الاحتلال من أزماتها.
رغم ذلك، تلاشي قدسية الجيش سيستمر انعكاسه على تفكك المجتمع الإسرائيلي وعلى عمق الخلافات السياسية، حيث أظهر آخر استطلاع للرأي داخل دولة الاحتلال أن 58% من الإسرائيليين يخشون نشوب حرب أهلية، أيضاً ستزيد من قدرة التيار الديني الخلاصي الحريدي على تحقيق أهدافها بحسم الصراع، فقد أظهر تحقيق للقناة 12 العبرية أن حكومة نتنياهو خصصت أموالاً ضخمةً لبناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى، وكشفت جلب بقرات حمراء ليتم ذبح أحدها في المسجد الأقصى تمهيداً لإقامة الهيكل المزعوم، لكن هؤلاء الأغبياء لا يعلمون أن خطواتهم هذه ستعجل بنهاية كيانهم.
يمكن القول إن دولة الاحتلال قد فعَّلت آلية التدمير الذاتي، لكن ذلك لا يعني أن نركن وننتظر انهيارها، بل يجب مراكمة إنجازات المقاومة، وتفعيلها في كل الساحات، واستمرار تطور المقاومة في الضفة الغربية، وتوجيه المزيد من اللكمات للعدو، حتى يأتي الوقت الذي توجه له المقاومة الضربة القاضية، بمساندة عربية وإسلامية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.