المقبل بكثرة على دورات التنمية، وهو يؤدي برضاه من محصلته نقوداً إلى دعاة التنمية وخبراء الكلام، قصد أن يلقي أمام المرآة عبارة أنه أسد، وسيصبح ناجحاً متفوقاً بالتكرار. لكنه في الحقيقة لن يجد في تلك المرآة إلا رأس كائن مدجن يبحث عن معنى لما يفعله أو ما يبحث عنه، ذلك المعنى الذي سيمنحه نوعاً من الرضا على الحياة، لذلك نجد أن الإنسان الأول قد اجتهد منذ بداية الحضارات في بناء حقيقته والتنقيب عن معانيها، فكان يُشكلها كمعتقد تارة، وأعراف تارة أخرى؛ مما جعله قادراً على نحو معين أن يتحمل تكاليف الحياة بضنكها وشقائها كما قال الكاتب عبد الله القصيمي: "إن في الإنسان شوقاً إلى أن يكون خرافياً، إن الحقيقة وحدها كئيبة، غبية، دميمة".
هذا البناء ظل متماسكاً بين المجتمعات البدائية وحتى الكلاسيكية التقليدية إلى أن ثار الإنسان على كل الحقائق. ولقد نجح هذا المعاصر لا سيما الغربي في هدم كل السرديات القديمة الكبرى (الله، الدين، العائلة، الوطن، الطبقية الاجتماعية…) حتى أصبح عارياً متجرداً من كل ثوابته، فقد هدفه وبوصلته مبحراً في اللامعنى، وفي كل الاتجاهات اللامحدودة رغم تفوقه العلمي والتكنولوجي، لكنه ظل في أزمة نفسية يواجه هواجس الفناء دون ثوابت.
ولعل جائحة كورونا قد عرت حجم الدمار النفسي الذي تعاني منه المجتمعات ذات النمط الغربي من التشرذم، والتفرد والوحدانية الموحشة، قد جعلت من كل فرد حداثي في ذلك العالم يعيش في قفصه منعزلاً، قلقاً أمام الخسارة، والموت، والبؤس النفسي وهو يبتلع أقراص الاكتئاب والقلق والنوم، في حلقة مطردة من البحث عن حقيقة ما قد تمنحه القوة للتحمل.
حتى ظهر عفريت التنمية الذاتية كمعنى جديد وقد برمجته العلمانية واستثمرت فيه الرأسمالية لإحياء ما هدمه إنسان ما بعد الحداثي، بجرعات مخففة لتسكين الألم وتطويع المجتمعات على مفاهيم أكثر مرونة عن الله والدين والعائلة والطبقات بصور مختلفة، تعمل على خلق شبكة اجتماعية تضمن لها استمرار تماسك الإنسان الغربي من جانب وتدفق الأموال من جهة أخرى.
هذه المنظومة لم تأتِ بغرض البحث عن سبل تطوير وتنمية الإنسان لمجرد أنه إنسان، وإنما جاءت من أجل تحقيق تدفق أموال سيدرّها هذا الإنسان بعد تطويره كمستهلك منتظم على النحو المطلوب، حيث السباق عليه محتدم بغرض ضمان تحصيل مستمر للثروة وفق الرؤية الفردانية، مقابل مناهج مدروسة تقدم على شكل جرعات مخففة توافق القيم والأخلاق الحسنة لغاية حفظ الطاقة والحيلولة من إهدارها في متعة مادية لا تنفع الفاقد بوصلة روحه في شيء، بحيث لا يُبدد قوته العاملة، إلا فيما يناسب جودة المنتج أو الخدمة قصد أن توافي حاجة المستهلك عملاً بمقولة: "استغلال الجهد والقدرة العاملة في الإنتاج الأكثر نفعاً للرأسمالية وعدم إهدارها".
يمكن فهم هذه الظاهرة من خلال ربطها بالتحولات السياسية والاقتصادية على مستوى العالم، حيث أضحى مجال التنمية منتجاً رأسمالياً ليبيرالياً يقوم على اقتصاد خدمة المستهلك من خلال آليات التمويل وقيم الترقي والدينامية السيكولوجية الرأسية عبر نشر نماذج استثنائية من قصص الناجحين ونشرها عبر القارات المختلفة في النتائج وعدم قابلية التطبيق؛ لأنها لا تراعي خصوصيات المجتمعات ومعايير التنمية والنجاح لدى كل أمة داخل نظامها السياسي والاقتصادي، مثل ما جاء به زيج زيجلار في كتابه "أراك على القمة" (See You at the Top)، الذي ارتبطت مقترحاته السحرية للنجاح وطرق تعويض الفراغ الروحي المبتكرة حسب أفكاره بالنظام الرأسمالي في الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الأمر انعكس على محاضري التنمية في مختلف بقاع الأرض الذين يعتمدون نماذج لا تتوافق مع ما يقدمونه والنظام المجتمعي الذي هم فيه.
ففي عالم يحكمه الاستهلاك، وتظهر المنفعة المادية كرؤية روحية لصناع خطابات التنمية نحو تكديس الثروة وتدفق المال في قنوات الرأسمالية. ويبرز الخوف كعامل قوي في نفوس الأمة المنطفئة روحها والتي هدم الرأسمال بمعاوله كل إرثها وتوابثها المقدسة كنتيجة تلقائية لذلك.
فإذا أصاب المرض الإنسان الغربي أرجعه إلى تهاونه عن تتبع نظام صحي وحمية غذائية تحفظ صحته وإذا عجز عن الحصول على عمل، فإنه يعزو ذلك إلى عجزه عن تعلم مهارات النجاح وطرق كسب النقاط في مقابلات العمل وغيرها من المهارات التي تصدرها الرأسمالية داخل قالب التنمية البشرية الذي تجعل منها الحل الوحيد لترقى الإنسانية إلى درجات السعادة والتفوق التي ستمكنها من أن تعيش في عالم منفعة زمنية محددة تخضع لنظام القوة والجهد المبذول، بمقابل نفعي دون تدخل من اي جهة كانت لتحمي فرص الناس العادلة وحقوقهم المتكافئة، ليتركهم نموذج العالم المادي الصرف للتنمية البشرية الذي تطرحه الرأسمالية حسب إيريك هوفر: يؤدون ثمن عدم قابلية تطبيقه على الواقع، وزيف الوصفات السحرية للنجاح والسعادة كضريبة إحباط فردي مستدامة.
وبشكل أوضح؛ فقد أضحت التنمية الذاتية بفروعها وأطروحاتها مشروعاً رأسمالياً بديلاً عن رجال الدين، عوضت من خلاله الراهب والفقيه بالپسيكاناليست الذي جعل عيادته غرفة للمصالحة الروحية ووصفات أدوية الإكتئاب والمنومات وخطابات رجال دين التنمية التي أصبحت كتراتيل السكينة داخل المعابد الدينية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.