تحمل كل بداية رونقها الخاص بها، إلا أن بداية الجامعة ليست كأي سابقة لها.
يرسمُ كل منا صورته الخاصة عن مشهد اليوم الأول في الجامعة، كلٌّ له هدفه وحلمه وغايته المتفردة، لكننا جميعاً نشترك في مستوى الحماس نفسه.
عندما ظننا أننا حينما اغتربنا فقدنا أوطاننا وأصدقاءنا والكثير من المشاعر والذكريات فقط، كنا مخطئين وسُذّجاً.
ولكن فقدنا أمراً جللاً يتكشف لنا رويداً رويداً، وهذا الفراغ الوجدانيّ لا يمكن سدّه لا في عدة أعوام ولا حتى بضعة عقودٌ.
ستظل تجارب المغترب الوجدانية ناقصة مهما حاول إكمالها، وسعى إلى تجميلها، مثلي مثل أقراني كنت أتطلع لهذا اليوم بشغف وحماس لم يدُم طويلاً.
كانت تمثل الجامعة بالنسبة لي حاصل مجموع قراءاتي عن اتحادات الطلبة في الجامعات المصرية والعربية، وعن الصورة التي ترسخت في عقلي عن الدور البارز لتلك الاتحادات، في رفع مستوى الوعي وحل مشكلات المجتمع، بل والمساهمة في نشر القيم الكبرى وإحداث التغييرات الجذرية في المجتمع، عبر الأعمال التطوعية والمبادرات الشبابية والمشاركة السياسية والمجتمعية الواعية الفعالة، التي لَطالما تمنيت أن أكون جزءاً من كينونتها، وعضواً فاعلاً فيها، ولكن تحطَّمت كلُّ آمالي هنا.. في الغربة.
هل تفتقدون الجامعة؟ أما أنا فلا
كلما تسنّت لي الفرصة للحديث مع أحدهم- من هؤلاء الذين يتمنون العودة إلى سنوات الجامعة- عن الجامعة، أُدركُ أن السبب وراء هذا الحب الكبير للجامعة يجمع بين وجود الصحبة الصالحة، مع أجواء اتحادات الطلبة المليئة بعنفوانية الشباب النشط، وحيوية الطالب المستجد في الجامعة، وحرية التعبير عن الرأي المتاحة إلى حد ما، وأعباء الإدارة والقيادة الممتعة في ذاتها، وبدايات الانطلاق من قوقعة المدرسة والحياة الروتينية إلى عالم الجامعة الواسع، الذي لا يضم فقط أُناساً من جميع أنحاء البلاد، بل وربما من بلادٍ أخرى.
عالمٌ يعينُ على اتساع الأفق وتوقّد الفكر والانتقال من حالة السكون إلى الفعل الحقيقي، ومن الركود إلى الحركة بين حزمة متشعبة ومعقدة من الأفكار التي تجمع بين النقيضين، بين التطرفات بمختلف أشكالها بالإضافة إلى الوسطية والاعتدال. عالمٌ يُعادُ فيه بناؤك وتشكلك من جديد فكراً ووجداناً وكياناً، عن إرادة ووعي وربما عن غير وعي.
لَطالما كرهت مستوى الرتابة العالي الذي كانت تتسم به جامعتي، رغم التنوع الثقافي العالي بين الطلبة، فإن أكثر ما كان يفتقده المناخ العام هما الحماس والنشاط المصحوبان بأصحاب آمال كبيرة وهممٍ عالية وأهدافٍ وغايات كبرى. ذلك المناخ الذي تنبع منه النقاشات الفكرية العميقة، وينشأ على إثره الحراك الطلابي النشط.
لَربما كان هذا الجو موجوداً إلى حد ما في بعض قاعات المحاضرات، إلا أنني أتحدث عن الجامعة كفضاء واسع لتبادل الأفكار وبناء العقل وتوسيع الأفق لا كساحة ضيقة تقتصر على النقاشات العلمية المرتبطة بمجال التخصص، ثم يذهب الجميع إلى بيته، تماماً مثل روتين المدرسة، باستثناء مدرستي.
أزعمُ أن حياتي في المدرسة الإعدادية والثانوية كانت أكثر نشاطاً وحركة من حياتي داخل الحرم الجامعي الرتيب للغاية.
كل يوم يتكرر المشهد نفسه
سلسلة من المطاعم والكافيهات الشهيرة تحيط بالجامعة من كل الجهات، تضجُ بقهقهات وصياح الطلاب، مجموعة من المدخنين الكُثُر في الساحة الكبيرة، الكثير من الضوضاء النابعة من الأحاديث الجانبية- التافهة إلى حد كبير- بين الطلبة والكثير من البراندات التي يرتديها الطلبة الذين يبدون لك في حالة حركة، لكنهم مازالوا ساكنين في مكانهم، مقلدين للغرب، منسلخين من هويتهم، لا توجد معالم للدين الإسلامي غير حجابي أنا وأختي وابنة خالي، كانت غُربةً زيادةً على غربتنا.
كان يتسع أفقي في خارجها ولا يتحرك ساكن- أو لنقُل تبطئ وتيرة اتساعه- بداخلها.
وكأني كنت أتركُ شغفي وحماسي على باب الجامعة، وأصحبهما مرة أخرى في عودتي، أدركتُ مؤخراً أن هذا هو سبب عدم تعلقي وجدانياً بالجامعة.
فبماذا أتعلق؟ بالفراغ الوجداني والفكري!
حاولتُ دائماً أن أنضم إلى الكثير من النشاطات خارج الجامعة في تلك الفترة، إلا أنها لم تشبعني نفسياً ولا فكرياً، ولكني دائماً ما كنت أفصل بينها وبين الجامعة في ذهني، حتى إنني إذا سألني أحدهم: "ألم تفتقدي الجامعة؟" أردّ بكل صدق "لا، أبداً، ولا أعتقد أني سأفتقدها".
لا أنكر كمّ التجارب والخبرات التي تحصلت عليها بفضل الجامعة، إلا أنها لم تكن بالتجربة التي أود أن أعيشها مراراً وتكراراً.
إنها ضريبة الغربة يا صديقي!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.