"هنا نسألك عن فريقك الذي تشجع، ثم بعد ذلك نهتم بديانتك!"
ربما يكون وقع هذه الكلمات غريباً على مسامعنا، لكنها لم تكن إلا كلمات تعبر عن حقيقة مُجردة خرجت من فم أحد الأشخاص المتعصبين في أمريكا الجنوبية، وهو مشجع لفريق ريفربليت بالمناسبة، تحديداً قبل نهائي القرن الشهير بين بوكا جونيورز وريفر بليت، عام 2018، في بطولة كوبا ليبرتادوريس.
لم يكن الرجل يكذب؛ فهذه هي الحقيقة في دولة الأرجنتين، والتي تتشابه في حقيقتها في دول أخرى، لكن الأرجنتين هي الأكثر تعصباً لمذهب كرة القدم، وبالطبع هي الأكثر شغفاً بها.
في الأرجنتين، لا تسأل الناس عن ديانتهم، ولكن اسألهم أولاً مَن يشجعون؟ بوكا أم ريفر؟ وحينها يمكنك أن تتطرق إلى أي جانب شخصي في حياتهم دون تأفف.
نشأت كرة القدم على هذا النحو، ووقفت بجوار بعض الشعوب التي تخلى عنها الجزء الأكبر ممن كانوا يتوجب عليهم أن يقفوا بجوارها، إذ وفرت مساحة مسكونة ببعض الحرية والكبرياء للمستضعفين، فبدأت في التوغل في المساحة الشعبية في الأرجنتين، حتى انقسم أهلها إلى: غني وفقير.
لم تنجح كرة القدم هناك في أن تمحي الحدود بين الطبقات الاجتماعية، بل أسهمت في إبرازها، فمن يُشجع بوكا جونيورز فإنه ينتمي إلى الفئة الفقيرة، ومن ينتمي لريفربليت فهو بالضرورة من الفئة الغنية، ومن هنا نشأ العداء التاريخي الذي جمع الفريقين في مباراة تاريخية عام 2019، في ملعب السانتياغو بيرنابيو، الخاص بنادي ريال مدريد، إذ قال الرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري قبل اللقاء حينها إن الخاسر سيحتاج إلى أكثر من 20 عاماً للتعافي من آثار الهزيمة!
لعبة لمن لم تُنصفهم الحياة
"لو لم يكن نادي برشلونة موجوداً؛ لكان لزاماً على ريال مدريد أن يخترعه"
قال رجل أعمال وسياسي مُحنك في إسبانيا هذه الجملة، التي تصف أكثر مما تُخفي، والتي تنفي بالضرورة حالة المشاحنات الكبيرة بين جمهور الفريقين في كل مكان في العالم، وبمختلف اللغات.
هذا الرجل هو المحامي الإسباني فلورنتينو بيريز، رئيس ريال مدريد، والذي حكم النادي كأنه ورثه عن أسرته؛ فلورنتينو بيريز، الذي قال إن حالة العداء التي تم اختلاقها بين ريال مدريد وبرشلونة هي حالة مفيدة للغاية للكرة الإسبانية، ولم لم يكن برشلونة موجوداً فكان لا بد على ريال مدريد أن يخترع فريقاً بنفس فِكر وأسلوب برشلونة، لكي تتحول المنافسات بينهما إلى ما هي عليه في إسبانيا الآن.
هناك، في إسبانيا، نشأت كرة القدم على أساس سياسي بحت، بحيث قام ريال مدريد على كل الأسباب التي عارضها برشلونة، وكان برشلونة معارضاً لكل شيء كان ريال مدريد تابعاً له، فلبس ريال مدريد تاجَ السلطة، في حين كان برشلونة يتغنى بجمالِ الاستقلال.
في إسبانيا، ما زالت فكرة استقلال كتالونيا عن إسبانيا كدولة فكرة قائمة، وتتوارثها الأجيال، لكن الدولة الإسبانية لم توافق بَعد على هذا المطلب، الذي سيحرم الكرة الإسبانية من القطب الثاني فيها؛ فريق برشلونة.
حينما ظهر ليونيل ميسي للنور، وكان أرجنتيني المولد، كتالوني الصبغة والحياة، قال أحد الساسة الكتالونيين في يوم من الأيام إن ما فعله ميسي لبرشلونة جعلهم يمتلكون شيئاً يُمكّنهم من التغطرس على العاصمة الإسبانية مدريد، وحينما سجل يوهان كرويف فوزاً تاريخياً لبرشلونة في عام 1974 على ريال مدريد، بخماسية نظيفة في البيرنابيو، قالت الصحافة الكتالونية إن كرويف قد قدم لكتالونيا خدمات لم يُقدمها لها أبرز الساسة الكتالونيين طوال فترة المقاومة الشعبية هناك!.
الدين يدخل في كل شيء!
مثلما تمتعت هذه اللعبة بجانب سياسي وطبقي، فإنها امتزجت بالديانات في معظم دول العالم، وأصبح من الضروري أن ينشأ في دولة اسكتلندا كيان يدافع عن حق الطائفة الكاثوليكية المسيحية، مثلما يتواجد كيان للطائفة البروتستانتية المسيحية في مدينة غلاسكو.
ومن هنا حدث الشِّقاق الكبير بين نادي سيلتيك ونادي رينجرز، طائفة لا تتمتع بأي حق في كل مناحي الحياة، وتُحرم من الوظائف والمأكل والمشرب، ولا تتعامل معها الكثير من المصالح الحكومية، وطائفة مُنعمة كأن الكون قد خُلق من أجلها، ودولة اسكتلندا تميل بأرضها ناحيتها إذا أشارت هذه الطائفة لها.
في غلاسكو، شهدت المدينة أحداثاً دموية طائفية كبيرة، وشهدت أيضاً توديع بعض أبناء المدينة في توابيت، كان تصريح دفنها مرهوناً بمباراة كرة قدم، أو حتى لقاء يجمع بين سيلتيك ورينجرز.
لجماهير رينجرز على سبيل المثال هتاف عنصري يقول: "نحن نكره الكاثوليك، ونقتلهم على سبيل المرح!".
كان لا بد من أن تكون مذهباً في النهاية
"مارادونا الذي في الملعب؛ اغفر لنا خطايانا.."
العبارة المذكورة صحيحة، لكنها عبارة مأخوذة من النص الأصلي لها في الكتاب الذي تؤمن به الطائفة المسيحية حول العالم كله، لكنها للأسف تم تعديلها.
العبارة المُحرّفة، أو المأخوذة وتم تعديلها لإرضاء أهواء البعض هي التي تتفوه بها الكنيسة المارادونية الموجودة في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيريس، وهي الكنيسة نفسها التي تؤمن بمارادونا إلهاً لكرة القدم، ومُخلصاً استطاع إنقاذ الشعب الأرجنتيني من بطش الإنجليز في كأس العالم عام 1986.
ولم تقف هذه الكنيسة أو الديانة عند حدود الأرجنتين، بل خرجت ووصلت إلى دولٍ أخرى، من بينها إيطاليا، والمكسيك، والبرازيل، ووصل أتباعها إلى أكثر من 120 ألف شخص، بحسب ما نشره موقع "world religions".
وأتباعها يُقدسون مارادونا ويعتبرونه "رب" لكرة القدم، ويعتبرونه أحد أهم هدايا السماء للأرض، وخالقاً للسحر والعاطفة.
وجاءت فكرة اختيار مارادونا "رباً لكرة القدم"، حسب تعبير جمهوره من أتباع الكنيسة المارادونية، بعد الهدف الذي أحرزه في شباك منتخب إنجلترا، خلال كأس العالم عام 1986، حين راوغ ستة لاعبين وحارس مرمى المنتخب المنافس، إضافة للهدف الثاني الذي سدده بيده.
يمكن القول إن كرة القدم ربما قد تحوّلت إلى لعبة مُسيّسة، ولعبة طائفية وعنصرية، وأيضاً لعبة دينية ومذهبية، فقد بات لزاماً أن تُحدد لها أيام في كل أسبوع، مثلما يحدث في معظم الديانات: يوم الجمعة في الدين الإسلامي، ويوم السبت في الديانة اليهودية، ويوم الأحد في الديانة المسيحية.
ومن يُشاهد المباراة في الملعب مؤازراً فريقه أفضل بكثير ممن يجلس على الأريكة في منزله ويتمنى لفريقه النصر، ومن يهتف بصوته أمام لاعبي فريقه أكثر ولاءاً للفريق من الذين يتعاملون مع اللاعبين خلف شاشات التلفاز كأنهم رسوم متحركة!
وقد استغلت الصحافة، وأسهم الإعلام، في كل دولة حول العالم في زيادة قدسية هذه اللعبة، التي نشأت في بعض الأحيان لأسباب تدعيمية لبعض الطوائف والمذاهب، لكن حالة الشحن التي أصبح عليها معظم مشجعي اللعبة باختلاف ميولهم، جعلتهم يُقدسون اللعبة، ويعتبرونها شيئاً مقدساً لا يُمكن الاقتراب منه ولا التفوه في حقه بأي شيء.
ومثلما قال مدرب ليفربول التاريخي، بيل شانكلي، عن لعبة كرة القدم: "الناس يعتقدون أن كرة القدم مسألة حياة أو موت، لكن على العكس تماماً، فالأمر أكبر من ذلك بكثير!".
وبالفعل، مقولته صحيحة تماماً، فالأمر لم يعد يتعلق بحياة الناس أو قيمة اللعبة من حيث كونها رياضة ترفيهية؛ بل باتت مذهباً يعتنقه البعض، وشيئاً يُدافعون عنه أكثر مما يُدافعون عن دينهم وموطنهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.