في عصر الحداثة "الماسِخة"، والتريندات الساذجة "البائخة"، عصر التفاهات وفقدان الذات، صرنا نستأنس بالشاشات التي تحيط بنا من كل اتجاه، ونتركها تغتال فينا طبيعتنا، كأنَّ الغِزلان تناستْ ما تفعله بها الوحوش، وكأنَّها تحتفل كلما تمادتْ في سفكِ دمائها، بل والأنكى من ذلك أننا استعذبنا إقامتنا في انعزالنا في هذه الشاشات، كأنها قُمقمنا الذي يُريحنا من مواجهة العالم الحقيقي.
لقد صارت كل محادثاتنا عبر الشاشات الصغيرة تلك، وإذا تحدَّثنا وجهاً لوجهٍ لا نتحدّث إلا صمتاً وتنهيداً عميقاً، كأننا غرباء عن بعضنا، حتى إننا نسير معها في الشوارع أكثر من مَشينا مع أحبّتنا. والحال أننا ذُبنا فيها بكلِّ كِياننا إلى أن صرنا بلا كيان سوى ذلك الذي خلقته لنا، حدَّ أنّها أثّرتْ علينا أعمق التأثير، فكم أرهقنا أبصارنا عليها، وكم أضعنا في صحبتها الكثير من العمر، دون عائدٍ غير الإحساس بالعزلة، والاكتئاب، والنقص الحاد في هرمون "الحياة" في الدم!
إنَّ المرء منّا يحتاج أن يخرج من تلك الشاشات كي يعود إلى الحياة عوداً حميداً، والعودة إليها لن تتحقق إلا إذا ولَّى المرءُ قلبه شَطْرها، مُنحِّياً كل تلك المُشتِّتات، وتاركاً وراءه هذه الترّهات، عازماً على الرقي بإنسانيته؛ إذ ليس من الإنساني أن يكون عالمنا الافتراضي هو العالم الحقيقي، والحقيقي هو الافتراضي.
لذلك اعتذر للحياة يا صاح، وعُد إليها. سِر في شوارعها، وكحِّل عينيك من منظر السماء، واستمتع بتلك المحاورة الخفيفة التي تدور بين خدِّك والنسائم، ولا تردَّ أيَّ أغنيةٍ تائهةٍ في الجو جاءتك لتطرق باب أذنك، واستمع إلى ما تقوله الشوارع من حكايا، واقرأ الأحداث في عيون المارَّة والأرصفة، وابتسم بقلبك لكلِّ بشرٍ أو طيرٍ تصادفه، واترك عينك ترى أكثر بإمعانٍ وإحساس، فهي ظمِئة إلى رؤية الوجود، لأنه هو الأجدر بأن تُهرِقَ عليه بصرك.
أَجِبني: لماذا تُقيم في هذه الشاشات، ولماذا تستبدل الحياة بها، أَيستقيم لك ذلك، وهل زادك تأثيرها فيك إلا خَسَاراً ووبالاً؟!
إنّك مَن منحتها حقَّ السطو على انتباهك ووقتك، وعلى روحك كلّها. ولو أنّك أشحت ببصرك عنها وسرت مملوءًا بالحياة لما ذبُلَتْ عيونك، ولما تَشَظَّتْ الأواصر التي تجمعك بالناس هكذا.
اخْرُج من تلك الشاشات اللعينة، واجلس مع أحبّتك، دَع أصواتهم تتسرَّب إلى روحك، واملأ بصرك بهم، فهم ليسوا صورةً على الفيسبوك، ولا "شاتاً" على الواتس، لكنهم من لحمٍ ودمٍ، لذلك خليقٌ بك أن تجتمع بهم، وأن تستمع إلى حكاياتهم، وأن تضحك على نِكاتِهم، وأن تُشاطرهم عبء الحياة، وتُقاسمهم الأمل في الغد.
اخرج من تلك الشاشات، واستمع جيداً إلى خطواتك على الأرض، فهي أمارة وجودك، وعلامة إثبات أنّك لست مجرّد "بروفايل" على مواقع "التقاطع الاجتماعي". لقد كنت مثلك يا صاح، كنت أستغرب وجودي كلّما عدتُ إلى الحياة، وأُثبِته حينما أعود إلى الشاشة الصغيرة، بل وبنيتُ قيمتي من خلال عدد التفاعلات والرسائل التي تصلني، غير أنّي أدركت أنَّ تلك الأرقام لا تُسمن ولا تُغني من جوع، وما هي إلا بهرجة فارغة، وبضاعة كاسدة في سوقٍ خادعة.
إنَّ الخروج من تلك الشاشات إلى الحياة لَهو فرضُ عينٍ في حقِّ كلّ إنسان، إذ لا نريد أن تندثر إنسانيتنا ويجفّ جمالها مع الوقت بسبب هذه المُبيداتِ لها، لذلك عُـد إلى الحياة كما يليق بإنسان، واترك وراءك هذا الموت المُتفشِّي في كل مكان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.