بعد مئة يوم ونيّف على اندلاع الحرب في السودان، التأم أخيراً شمل تحالف قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، في العاصمة المصرية القاهرة، وذلك للتباحث حول سبل وقف الحرب وطرح خارطة طريق لاستعادة الانتقال الديمقراطي.
ألقى البيان الختامي للمؤتمر باللائمة على عناصر النظام السابق (حزب المؤتمر الوطني)، واتهمهم بإذكاء نيران الحرب، كما ساوى البيان بين كفتي المؤسسة العسكرية وقوات الدعم السريع، في حجم الانتهاكات الإنسانية المرتكبة وفظاعتها. بالرغم من التقارير المحلية والأجنبية التي تؤكد خلاف ذلك.
أجدني في اختلاف تام مع خارطة الطريق السياسية للحرية والتغيير، والتي استندت في تحليليها لسياق المشهد السياسي على الموقف من الحرب الدائرة بتصنيف لا يتسق وتعقيداتها، وهم سدنة الحرب من جانب، ودعاة السلام على الجانب الآخر.
لقد أثبتت التجربة السياسية في السودان أن الخاسر الوحيد من الحرب هو الوطن وإنسانه. على أن نذر الحرب في السودان كانت ظاهرة للعين الحصيفة، إلا أنها لم تكن متوقعة، كونها سابقة لم تشهدها سماوات الخرطوم ولا أرضها. لكن الحقيقة المجردة هي أن كل الأطراف السياسية- عدا لجان المقاومة التي جاهرت بحل الميليشيا مراراً وتكراراً- أسهمت في إذكاء جذوة الحرب، وذلك عبر المساهمة بدرجات متفاوتة في التمكين السياسي والاقتصادي لقوات الدعم السريع خلال الفترة الانتقالية، التي شاركت فيها جميع القوى السياسية، بما فيها المؤسسة العسكرية.
كل الشواهد تؤكد أن الدعم السريع تمدد اقتصادياً وعسكرياً خلال الفترة الانتقالية، أضعاف ما كان عليه إبان حقبة الرئيس المعزول عمر البشير. لقد استغل تحالف الحرية والتغيير الشقاق الواضح بين قوى الانقلاب (وهو التصنيف الأمثل والأشمل لطرفي النزاع) لفرض وجوده في الفضاء السياسي، عقب الانقلاب العسكري على حكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، وتجلى هذا الأمر في المعادلة السياسية للاتفاق الإطاري، والتي وضعت المؤسسة العسكرية أمام خيارين لا ثالث لهما: الامتثال أو الحرب.
لذلك، فإن سردية الحرب والسلام الواردة في خارطة طريق الحرية والتغيير لا تتسق والمشهد السياسي، بل تسوقه سوقاً نحو معركة ضد الإخوان المسلمين، والتي كسبها الشعب مسبقاً في ثورته على النظام السابق. الحقيقة الماثلة هي أن الشعب السوداني في الخرطوم، وفي إقليم دارفور على وجه التحديد، تضرّر كثيراً من ممارسات قوات الدعم السريع، والتي مهما تدثرت بشعارات الديمقراطية والحرية والتنوع، فإنها كانت ذراع المؤتمر الوطني الباطشة على كل من ناضل ضد تسلط الإخوان المسلمين وظلمهم.
إن وقف الحرب أمر ضروري، لكنه يتطلب خروج عناصر الدعم السريع من المشافي، والمراكز الحكومية، وبيوت المواطنين؛ لذلك فقد كان البيان الختامي للحرية والتغيير حانياً على قوات الدعم السريع، التي وثّقت جرائمها بصورة واضحة منظومات المجتمع المدني والمنظمات الأممية.
كما أن وضع انتهاكات المؤسسة العسكرية في سلة واحدة مع جرائم الدعم السريع فيه استسهال، وعدم تقدير لمعاناة السواد الأعظم من السودانيين، وهذا الأمر لا يعني إصدار صك براءة للمؤسسة العسكرية، خاصةً في تهاونها وعدم دفاعها عن أمن المواطنين في إقليم دارفور.
وقف الحرب في هذه المرحلة، وبدون خروج قوات الدعم السريع من المدن إلى ثكنات عسكرية آمنة لا يعني سوى التفاوض على تفكيك المؤسسة العسكرية ودمجها، وفقاً لشروط قوات الدعم السريع وليس العكس. لقد وضعت القيادة السياسية للدعم السريع شرطاً فضفاضاً لدمج قواتها في المؤسسة العسكرية، وهو خروج الإسلاميين منها، متناسين أنهم- أي مؤسسة الدعم السريع- غرس المؤتمر الوطني الذي رعاه خوفاً من انقلاب المؤسسة العسكرية عليه.
الشاهد في الأمر هو أن حرب المئة يوم ونيف ما هي إلا السيناريو الأسوأ للاتفاق الإطاري، كونه لم يترك لقادة الجيش سوى الامتثال لرؤية قوات الدعم السريع فيما يتعلق بالمدة الزمنية للدمج، وفرض وضعيته كقوة موازية للجيش أو رفض الاتفاق الاطاري، وما الخيار الثاني سوى الطلقة الأولى في الحرب.
فالدعم السريع كقوة عسكرية نظامية وفق الدستور الانتقالي، المنقلَب عليه، اتخذ قراراً سياسياً مغايراً للجيش، مسنوداً برافعة سياسية تمثلها كتلة المجلس المركزي للحرية والتغيير، بالإضافة للقوى الموقِّعة على المسوّدة الدستورية، والتي بدورها استقت الشرعية الدولية بالقبول الأممي للعملية السياسية عبر مناديب المجتمع الدولي في الخرطوم.
إذن، الرؤية السياسية للحرية والتغيير، وإن كانت مقنعة قبل الحرب، فهي ليست كذلك بعد اشتداد لهيبها لأسباب عديدة. أولاً ليس من حق القوى الديمقراطية -إن جاز الوصف- أن تصف جهة سياسية معادية بالإرهاب، كونها تعطل فرص التوافق السياسي وتزيد الطين بلة، كما أن التصنيف بالإرهاب ليس قراراً سياسياً، بل حكماً قضائياً يتم تفعيله سياسياً. أما وإن كان لا بد من وصم جهة ما بالإرهاب فهي بلا شك قوات الدعم السريع، خاصةً بعد مذبحة الجنينة واستباحة المرافق المدنية في الخرطوم، وترويعهم وامتهان كرامتهم.
لا أدرى ما الدليل الدامغ على أن من أشعل الحرب في الخرطوم هم عناصر النظام السابق، ليس تكذيباً، ولكن لغياب الأسانيد الكافية سوى العلاقة السببية بين الاتفاق الإطاري وابتعاد الإسلاميين عن صناعة القرار.
من أين استقت الحرية والتغيير هذا الإيمان القاطع بأن الحرب أشعلها الفلول وليس الاتفاق الإطاري نفسه؟
التحول الديمقراطي المستدام في السودان يتطلب مساومة تاريخية، بكل تأكيد هذه المساومة ليست بين قوى الثورة وقوى الانتقال، بل بين القوى الديمقراطية الليبرالية والقوى اليمينية المؤمنة بالمواطنة والديمقراطية بآلياتها المعلومة.
لذلك فالمساومة التاريخية في مسارها الأفقي تتطلب وجود الإسلاميين التقدميين (وليس المؤتمر الوطني)، أما في مداها الرأسي فهي تشمل ضمانات مشاركة الشعب في السلطة من المجالس المحلية صعوداً حتى البرلمان. هذا بكل تأكيد لا يعني العفو عما سبق، بل يتضمن المساءلة والمحاسبة وفق القوانين الموضوعة لا المستحدثة، فالقانون كما هو معلوم لا يطبق بصورة رجعية. أما الخلل في النظام القانوني فيمكن استصحابه في عملية الإصلاح المؤسسي الملازمة للتحول الديمقراطي.
خلاصة القول: الحل السياسي في السودان يتطلب شجاعة أكبر في التوافق مع القوى الإسلامية التقدمية، حول الشروط الموضوعية للتحول الديمقراطي وآلياته، لضمان فترة انتقالية أقل وعورة من سابقاتها.
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فإن ما وأد الفترة الانتقالية السابقة هو إهمال التفاصيل. إن حل قوات الدعم السريع، ودمج عناصرها أو تسريحهم وفق قانون القوات المسلحة في مدة زمنية يحددها الإطار الفني للعملية، أسوة بقوات الحركات المسلحة، يجب أن يكون البروتوكول الأول في أي خارطة طريق نحو انتقال ديمقراطي آمن في السودان. كما يجب أن ينص التوافق السياسي على توفير مخرج لقادة المؤسسة العسكرية الذين أسهموا في تمدد قوات الدعم السريع وتحولها لمهدد للأمن الوطني.
يجب أن يؤكد الاتفاق السياسي على أن الانتخابات هي السبيل الوحيد للوصول للسلطة، وينص صراحة على عدم مشاركة الأحزاب السياسية في الحكومة الانتقالية، سوى مشاركة محدودة في المجلس التشريعي، متعلقة بصياغة القوانين المرتبطة بالانتفال الديمقراطي، كقانون الانتخابات وقانون صناعة الدستور الدائم، وتمرير الموازنة العامة، ومُساءلة السلطة التنفيذية حال النكوص عن مهامها المنصوصة في الدستور الانتقالي.
يجب أن يحدد الاتفاق السياسي مهام الحكومة الانتقالية، وصلاحيات الحكومة، وآلية تكوينها ومُساءلتها، وآلية الاختيار للمواقع الدستورية، ويترك الاختيار للجنة حكماء بمشاركة مقدرة للمرأة والشباب والنازحين.
هنا تمتحن إرادة القوى السياسية في الانتقال الديمقراطي، وذلك عبر تغليب الكفاءة على الانتماء السياسي في الترشيح والتعيين، وتسمية كل المواقع الدستورية بصفة الانتقال، كرئيس القضاء الانتقالي ورئيس الوزراء الانتقالي، والمجلس التشريعي الانتقالي، للتأكيد على مرحلية الحكم. هذا يتطلب ربط الانتقال بمدة زمنية محددة يتم فيها تسليم السلطة الشعب، من المجالس المحلية مروراً بالمجالس الولائية، وحتى الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية.
أخيراً وليس آخراً، يجب على المجلس المركزي في رؤيته السياسية أن يؤكد على سيادة حكم القانون، بحيث لا يكون أداة للتشفي، بل لبسط العدل بأوجهه المختلفة، عبر العدالة الإجرائية أو الانتقالية أو الترميمية، كما أشار إليها الإمام الراحل الصادق المهدي. كل ما سبق يحتاج إلى إرادة وحكمة تتسامى على المكايدات السياسية، والنظر إلى المستقبل، ولكن باستلهام العبر- وما أكثرها- والتي انتهت بالسودان إلى ما هو عليه اليوم من خراب وتشريد وانتظار يائس للمجهول.
ختاماً، يُحمد للمجلس المركزي للحرية والتغيير إصراره على فرض الحل السياسي كمخرج ووسيلة لإعادة السودان نحو مسار الانتقال الديمقراطي، ولكن دوره يجب أن يتعدى وقف الحرب لمساومة تاريخية شجاعة تنأي بالانتقال من المشاكسات السياسية واستغلال العسكر للوصول للسلطة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.