لا شك أن النظام الدولي الراهن يمر بمرحلة تحول من الهيمنة الأمريكية الأحادية إلى نظام متعدد الأقطاب، ويعتبر التنافس الأمريكي- الصيني القائم الآن أحد هذه العوامل، التي باتت مجرياتها حاسمة بشأن مستقبل النظام الدولي والتوازنات الدولية.
رغم أن العلاقات الأمريكية- الصينية أقل عدائية مقارنةً بنظيرتها الأمريكية- الروسية (الاتحاد السوفييتي سابقاً)، سواء خلال الحرب الباردة أو الحالة القائمة اليوم؛ إذ لا نشهد خطوط مواجهة عسكرية مباشرة أو غير مباشرة بين البلدين، فإن هناك تنافساً كبيراً بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين الشعبية في المجالات التكنولوجية والأيديولوجية والسياسية والاقتصادية.
وتتمثل المواجهة الحالية بين البلدين في السعي للسيطرة على القطاعات الحيوية للمستقبل، وتحقيق التأثير العالمي. التنافس في المجالات التكنولوجية يلعب دوراً حاسماً في هذه الصراعات، حيث تسعى الصين لتحقيق التفوق في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، وشبكات الجيل الخامس، والطاقة المتجددة.
وهذا التنافس ظهر جلياً، حيث اتخذت الولايات المتحدة في عهد إدارة الرئيس ترامب سياسة أكثر تشدداً تجاه الصين، منذ العام 2018، إذ لجأت إلى فرض التعريفات الجمركية من جانب واحد، واعتماد سياسة الدبلوماسية النشطة لمنع تبني التقنيات الصينية مثل تقنية Huawei 5G داخل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، واتخاذ تدابير لمنع بيع التقنيات الأمريكية والأوروبية للشركات والمؤسسات الصينية، وإعاقة استثمارات الصين في الولايات المتحدة.
لكن كل هذا لم يثنِ الصين عن التقدم في استراتيجيتها المرسومة رغم التضييق الأمريكي، حيث أصبحت تسعى بخطوات ثابتة لتكون لاعباً أكثر فاعلية في المشهد الدولي. وقد ركزت سياساتها ومدركاتها للتحولات العالمية على رغبتها في حماية تجربتها الاقتصادية الناجحة وتفاعلاتها العالمية، محافظةً بذلك على الطابع الصيني الخاص الذي يُعرف بالتجربة الصينية.
ومن هذا المنطلق يُطرح السؤال التالي: كيف بدأت الصين فعلاً في محاولة قيادة المشهد الدولي؟
أولاً: البراغماتية وتأكيد الحضور الدولي
بدأت الصين تأكيد حضورها الدولي فعلياً بعد إنجاز جزء مهم من الإصلاحات الداخلية على الصعيدين السياسي والاقتصادي. وبدءاً من هذه المحطة سعت لتعزيز دورها في نظام دولي متجدد، يعتمد بشكل أكبر على المعطيات الاقتصادية والسياسية والمصالح المشتركة والأسواق المفتوحة، فلم تعد الأيديولوجيات عائقاً مثل القرن الماضي، حين كان لها دور فعال في إدارة السياسات الخارجية للدول، وفي رسم بنية التحالفات والتوازنات على المسرح الدولي.
وهو ما يتيح للصين الفرصة للعب دور محوري اليوم في إدارة ملفات خارجية عديدة، كانت حكراً على موسكو وواشنطن في عهد القطبية الثنائية، بينما اليوم وفي لحظات تغيّر موازين النظام الدولي، تعمل بكين لاستغلال الفرصة، بأن تكون فاعلاً دولياً ولها دور محوري في التفاعلات والأحداث الدولية والإقليمية، ولهذا تحرّكت باتجاه مجموعة الأزمات والقضايا الراهنة، بما يتناسب مع مصالحها ورؤيتها بشكل براغماتي، فعلى سبيل المثال:
- الحرب الروسية- الأوكرانية: لم تتبع الصين خطى الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في تعاملها مع حرب روسيا، بل عقدت اتفاقيات وتحالفات مع روسيا.
- الملف النووي الإيراني: لم تتخذ الصين ذلك النهج الغربي في التعامل مع طهران، بل استمرت العلاقات الصينية الإيرانية كما هي رغم العقوبات التي فرضتها أمريكا.
- العلاقة مع كوريا الشمالية: يملك البَلَدان علاقة خاصة وثيقة، إذ تُعتبر الصين غالباً أقرب حليف لكوريا الشمالية، وقد أبدى الرئيس الصيني شي جين بينغ عزمه الدفع نحو "مستوى أعلى" من العلاقات مع كوريا الشمالية مؤخراً، في وقت دان فيه وزراء خارجية دول مجموعة السبع التجارب الصاروخية التي تجريها بيونغ يانغ منذ شهور.
- تكتلات إقليمية ودولية منافسة: لا تُخفي الصين سعيَها لإنشاء تكتلات إقليمية ودولية تُنافس بها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ترسم من خلالها سياساتها ونظرتها للنظام والاقتصاد الدولي الراهن، وكمثال على ذلك مجموعة "البريكس"، و"منظمة شنغهاي".
ثانياً: القوة الناعمة والدور الجيوستراتيجي
بجانب البراغماتية اعتمدت الصين على مبدأ "القوة الناعمة" في سياستها الخارجية بشكل واسع، وهو مفهوم صاغه أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد، جوزيف ناي، لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع.
وهذا ما تبنّته الصين منذ عقود كسلاح استراتيجي في سياستها الخارجية لفرض نفوذها، فتحول نمط التفكير الصيني من الانحسار النسبي في مرحلة القطبية الثنائية، إلى القوة الناعمة في المرحلة الحالية، فراحت تفرض حضورَها الكبير بصورةٍ أجرأ وأكثر حيويةً، من محيطها المباشر في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ إلى الدوائر الأبعد في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية.
وما هذا إلا انعكاس لمجموعة من الإنجازات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، التي حققتها الصين في العقود الأخيرة، وفتحت لها بذلك الفرصة الأنسب لتتحرك داخل دهاليز الساحة الدولية بشكل بارز.
لكن رغم التطور الاقتصادي والنمو المتصاعد لمنتجات الصين من السلع والطاقة وفتح سلاسل التوريد، فإن بكين تدرك أن القوة الناعمة لها سقف، وأنها دون امتلاك النفوذ الجيوستراتيجي القادر على مساندة ودعم صعودها، لن تستطيع تأمين احتياجات الصعود الاقتصادي العالمي، لذا تسعى اليوم لبناء علاقات سياسية وطيدة بدول المصدر والممر، بالإضافة إلى ضمان حضور عسكري لها هناك لحماية طرق تصديرها للعالم.
وبدأت الصين فعلاً ببناء شبكة علاقات من التحالفات الدولية، وخاصةً في آسيا وإفريقيا، لتستفيد من المواقع الاستراتيجية لبعض الدول النامية، فبدأت بتفعيل خطتها المشتركة لمبادرة "الحزام والطريق"، التي أعلن عنها الرئيس الصيني سنة 2013، وهو مشروع جيوسياسي عملاق، تسعى الصين من خلاله إلى تحقيق نفوذ ومشاريع عالمية كبرى، أبرزها إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومبادرة (صنع في الصين 2025)، من أجل إعادة تركيز صناعتها على التنافس في مجال التحول إلى التشغيل الآلي، والشرائح الإلكترونية الدقيقة، والسيارات الذاتية القيادة. بالإضافة إلى تشكيل شبكة من الحلفاء والشركاء من أجل تأمين واردات الصين من الطاقة، وتأمين خطوط تجارتها البحرية والبرية من أراضيها.
يتضح اليوم أكثر من أي وقت مضى أن الصين لم تعُد تعتمد فقط على مبدأ القوة الناعمة فقط لتتفاعل مع المجتمع الدولي، بل تسعى اليوم من خلال رؤى سياسية وعسكرية مدروسة لكسب مكانة تُناسب قوتها.
وتشير المؤشرات الاقتصادية والسياسية والعسكرية إلى تقدم مطَّرد للصين على المستوى العالمي، فيما تشير المؤشرات السياسية إلى تراجع متسارع للهيمنة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية، وفي إطار استشراف التوازنات القادمة، يبدو أن الصين تمضي بخطى ثابتة، تَحكمُها المصلحة والوعي الجيوسياسي الجديد، الذي يتطلب مفهوم القوى الناعمة إلى جانب رسم النفوذ.
فالصين اليوم تخلع عنها رداءَها القديم، المعروف بطرزه، المتمرد على مبادئ العلاقات الدولية، كما كان الحال في فترة ماو تسي تونغ، وأصبحت تتبنى مبدأ البراغماتية الدولية؛ أي تغليب البعد البراغماتي على البعد الأيديولوجي، كسياسة تتبعها مع دول العالم، وتوسيع نفوذها في العلاقات الدولية عن طريق الانخراط في التكتلات الإقليمية والدولية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.