كانت إقالة نادي تشيلسي للمدرب الإنجليزي غراهام بوتر، رصاصة طائشة كلفت البلوز 13 مليون يورو. قد يكون تعويضاً ضخماً، لكن يبدو الأمر كما لو أعاد المدرب إلى الحقبة التي تم تشخيصه فيها بداء المعرفة، عندما كان يبحث عن المعنى الحقيقي لكرة القدم في ملاعب الجامعات.
لقد تفشّت رائحة تعالي أقرانه، وغرقوا بوهم المعرفة. كانوا يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب، ويبشرون بثورة تحرق الأخضر واليابس، وثقافتهم لا تتجاوز باب المقهى الذي يجلسون فيه. في ذلك الوقت، استقر بوتر على بُعد 1490 كيلومتراً عن وطنه، ليبحث عن العلاج الذي يشفيه من مرضه.
فرص العمر قد تأتي، لكن ليس بالضرورة أن تكون ظروفها مثالية. لقد كانت فرصة بوتر الأولى والحقيقيّة في دوري الدرجة الرابعة في السويد، في مكان لا يرغب أحد في الذهاب إليه. ولأنه أراد أن يخلق شيئاً جديداً، كان عليه تخطي حدود التقاليد.
في أواخر التسعينيات، ذاع صيت المدرب الإنجليزي ستيف ماكلارين – مساعد إريك تين هاج الحالي – مع ديربي كاونتي، لأنه استطاع تقليص عدد إصابات لاعبيه بالعام 1998 بنسبة 70% عن الموسم الذي سبقه، وذلك عبر تقديم كراسي مساج هزازة مستحدثة من شركة Prozone لعملية استرخاء عضلات اللاعبين.
أدرك مدرب نادي مانشستر يونايتد، السير أليكس فيرغسون، وقتها أن اللعبة على حافة عصر جديد، لذلك عيّن ستيف مساعداً له، وكان من أوائل من اعتمدوا مبادئ إحصائية عدد الأهداف المتوقعة (xG)، التي قدّمتها شركة Prozone، والتي من شأنها كذلك تغيير شكل علم تحليل البيانات. وكانت بداية الثورة التي لم تكن مرغوبة في بادئ الأمر.
بينما في تشيلسي، تم التشكيك بشخصية بوتر وجديته في عمله. لقد سُخر من شهادته في الذكاء العاطفي، وتم مسح تاريخه التدريبي، كما لو أنه لم يكن موجوداً. كان نقاشاً طويلاً وعقيماً وفارغ المضمون. وفي وسط ضجيج الحماقات، مرر بوتر حكمته بهدوء تام: "إذا كان أي شخص يعتقد أنه يمكنه بدء مسيرة تدريبية في الدرجة التاسعة لكرة القدم الإنجليزية، في القسم الأول من المقاطعات الشمالية، والوصول إلى هذه النقطة الآن مع تشيلسي في دوري أبطال أوروبا دون أن يغضب، أود أن أخبرهم أنهم لا يعرفون أي شيء عن أي شيء".
رُبما هذه كلمات رجل يائس، شاب شعره من شدة الهم، وأكله الإرهاق والتعب من الداخل. لكن بوتر مُحق. هم لا يعرفون أي شيء عن أي شيء. لا يعرفون ما معنى الذكاء العاطفي، ولم يقرأوا صفحة واحدة عن علم النفس، لا يعرفون شيئاً عن مشاكل تشيلسي وطريقة إدارة النادي، ولا يعرفون ولا حتى يُقدرون رجلاً نهض من الدرجة التاسعة لكرة القدم الإنجليزية.
إن التراتب المنطقي لتكوين نادي كرة قدم متماسك على أبواب التغيير، هو تنظيم الهيكل الإداري وتعيين مدير رياضي، يتبعه المدرب، وأخيراً التعاقد مع اللاعبين. لقد شهد بوتر ذلك مع نادي أوسترسوند في السويد، ومع سوانزي سيتي وبرايتون في إنجلترا، لكن مع تشيلسي، ما حدث كان نقيضاً للمنطق.
لقد أنفق ملاك تشلسي 220 مليون يورو في الصيف على لاعبين جدد بالاتفاق مع توماس توخيل، ليتم إقالة الأخير بعد 9 أيام فقط من نهاية سوق الانتقالات الصيفي، ويخلفه بوتر، الذي سيحصل على دفعة أخرى من اللاعبين هو الآخر في سوق الانتقالات الشتوي، وبمبلغ قياسي، يصل إلى 330 مليون يورو، والنادي بدون مدير رياضي ولا مشروع متماسك.
يُشبه الأمر كما لو اشتريت واحدة من السلع المفككة إلى أجزاء، ثم حاولت تركيبها بدون اتباع الإرشادات. فوجدت نفسك في ورطة كبيرة، أقنعت نفسك بأن هناك قطعة مفقودة، وهكذا لم تستطع تركيب السلعة، وبالتالي لم تتمكن من استخدامها.
بنظرهما، لا يُمكن القول إن تود بويلي وبغداد إقبالي لم يقدما كل شيء للنادي. فكم نادٍ يصرف هذا الكم المهول من الأموال على لاعبين جدد في عام واحد فقط؟ وبالحقيقة هنا تكمن المشكلة، أنهما مقتنعان بذلك.
شهد أحد تدريبات تشيلسي، تنظيم بوتر لمباراة بين 11 لاعباً ضد 11 آخرين على أحد ملاعب التدريبات، بالوقت الذي تجري فيه أيضاً، على ملعب مجاور، مباراة بين 9 لاعبين لتشيلسي ضد 9 آخرين. كان هؤلاء اللاعبون، الذين يبلغ عددهم ما يُقارب 40 لاعباً، يعتبرون أنفسهم أعضاء في الفريق الأول. هذا دون الأخذ بعين الاعتبار اللاعبين المعارين لفرق أخرى ولاعبي الأكاديمية.
لم تقتصر المشكلة على التدريبات فقط، بل حتى على الجلسات الداخلية التي يتحدث فيها بوتر مع المجموعة ويشرح أفكاره وتكتيكاته. هناك عدد كبير من اللاعبين، بسبب كثافة المجموعة، لم يجدوا مكاناً ليجلسوا فيه، ليس فقط على الكراسي، بل حتى على الأرض، لدرجة أن نوني مادويك وميخايلو مودريك، اللاعبان الجديدان المتحمسان لإثبات نفسيهما مع تشيلسي، كانا يقفان في الممر خارج الغرفة ليستمعا لما يقوله المدرب.
اعتبر كل لاعب أنه يستحق المشاركة مع الفريق الأول. كان الجميع يُصابون بخيبة أمل كبيرة إذا لم يتم اختيارهم للعب. كانوا جميعاً يتوقون إلى اهتمام بوتر. وعندما لا ينالون ما يُريدونه، كانوا ينقلبون عليه ويبدأون بالسخرية منه ومناداته سراً "هاري" أو "هوجوورتس"، نسبة إلى سلسلة هاري بوتر.
لقد كانت ظروفاً غير قابلة للتحكم. ربما لم يبالغ بوتر عندما قال إنه يعمل في أصعب وظيفة في العالم، فقد رُمي لوحده في المجهول وكان عليه التعامل مع كل تلك المشاكل. إن خبراته وما درسه عن علم النفس، تجعلاه مدركاً جيداً أنه لن يستطيع إرضاء 40 لاعباً في الوقت نفسه، ولن يقدر على تلبية طموحاتهم.
ولكن لا يبدو الأمر وكأن أمامه خياراً آخر. ما زاد الأمور صعوبة هو أن الفريق لم يكن يحقق الانتصارات، ولا حتى يُسجل الأهداف، وكانت الإصابات تفتك بالمجموعة. غاب نغولو كانتي لفترة طويلة بسبب عملية جراحية، وغاب كل من تياغو سيلفا ورييس جيمس وماسون ماونت لفترات متفاوتة.
لقد كان المشهد سيريالياً جداً لدرجة أن اقبالي وبويلي كانا يحضران التدريبات على الدوام. رُبما كان عليهما أن يُلاحظا أن بوتر وطاقمه غير قادرين على تنظيم المجموعة، ولا حتى العمل على التدريبات الفردية للاعبين لتطوير نقاط ضعفهم بسبب هذا العدد الهائل وغير المنطقي من اللاعبين. وبوتر لم يكن حاضراً منذ الصيف، لذا فقد فاتته فترة التحضير للموسم، وأن اللاعبين الجدد ليسوا من النوعية التي يُريدها، والتي تخدم أسلوبه وأفكاره.
هذه العشوائية كانت لابد أن تزيد القصة سيرالية. فتمت إقالة بوتر، وعُين مكانه فرانك لامبارد مؤقتاً، الذي قبلها بفترة قصيرة، كان قد طُرد من إيفرتون بسبب عمله الكارثي مع الفريق. وكأن أسطورة تشيلسي، سيكون قادراً على احتواء كل هذه المشاكل في غضون شهر ونصف، وهو ما لم ينجح بوتر، المدرب الأكثر خبرة منه، بالقيام به على مدار 6 أشهر.
ولكن هذا هو النتاج الطبيعي لسوء التخطيط، والمكابرة وعدم التعلم من الأخطاء. فعلي سبيل المثال 2010، رحل المدرب جوزيه مورينيو إلى ريال مدريد، بعد خلافات بينه وبين موراتي، رئيس إنتر، الذي قال في مؤتمر تقديم المدرب الجديد لنادي رافاييل بينيتيز عبارة كان يستحق السجن عليها، "لقد جلبناه لأنه يتفوق على مورينيو".
بعد أن انتهت فترته مع إنتر، عبر موراتي لاحقاً عن ندمه بالتعاقد مع بينيتيز، وعدم الوصول إلى حل مرضٍ مع مورينيو. ولكن كان قد أدرك موراتي حماقته بعد فوات الأوان.
بالوقت نفسه، لا يبدو الأمر كما لو أن كل مشاكل تشيلسي هي إدارية، فهناك خلل مُلاحظ على أرض الملعب بفرق جراهم بوتر، وليس بتشيلسي فقط، وهي ظاهرة تسجيل فرقه أهداف أقل من المتوقع تسجيله. ومن السخافة اعتبار الأمر سوء حظ فقط.
في موسمي 2020/19 و2021/20 سجل فريقه 77% فقط من أهدافهم المتوقعة. وفي الفترة التي قضاها في تشيلسي، سجل تشيلسي 76% فقط من أهدافه المتوقعة.
أحد الأمور اللافتة في هذه الظاهرة، هي التسديدات المُعترضة. في كل من المواسم الأربعة الماضية، كانت فرق بوتر في صدارة الدوري بالنسبة لنسبة التسديدات التي تم اعتراضها والنسبة المئوية للأهداف المتوقعة التي تم اعتراضها كذلك. في موسمه مع تشيلسي، تم اعتراض 32% من التسديدات، أي ما يُعادل 23% من أهدافهم المتوقعة، وهي نسبة مرتفعة جداً.
يُمكن أن يكون أحد تفسيرات التسديدات التي تم اعتراضها هي المسافة بين المُسدد والمرمى. تميل التسديدات التي يتم تسديدها من مسافة بعيدة، أن يتم اعتراضها بسهولة أكبر، وهو شيء منطقي، لأن المدافع سيكون لديه المزيد من الوقت ليتمركز بشكل صحيح ليصد الكرة. لكن لا يبدو أن هذا يفسر ذلك، لأن فرق بوتر لديها نسب متقاربة جداً مقارنة ببقية فرق الدوري من حيث مسافة التسديدات.
تفسير آخر رُبما يحتاج إلى تعمق أكثر بالتفاصيل، وهو أن هناك تعارض بين أسلوب لعب فرق جراهم بوتر واحصائية عدد الأهداف المتوقعة. كيف يُمكن أن يكون ذلك؟
فرق بوتر تأخذ وقتاً أطول في عملية البناء قبل الوصول إلى الثلث الأخير من الملعب، مقارنة بالفرق الأخرى، وذلك يُتيح للخصوم وجود المزيد من اللاعبين خلف الكرة، مما يُصبح من الأسهل اعتراض التسديدات، أياً كان مكانها.
إن أخذنا نموذج عدد الأهداف المتوقعة (xG) الخاصة بشركة أوبتا كمثال، فهي تأخذ بعين الاعتبار العديد من العوامل، لكن هناك عوامل أخرى يصعب احتسابها أو لا تدخل في نموذجها.
في إحدى مباريات تشيلسي خلال الموسم السابق، حاول كوفاسيتش التسديد على مرمى إيفرتون من أطراف منطقة الجزاء. كان هناك 3 لاعبين يقفون بخط شبه مستقيم أمامه، وهؤلاء هم أحد العوامل التي تحتسبها نموذج شركة أوبتا للأهداف المتوقعة (xG)، والتي تُصنف أن نسبة دخول تلك التسديدة هي 0.04. لكن في محيط التسديدة، كان هناك 3 لاعبين آخرين لا تحتسبهم نموذج أوبتا، أحدهم كان تاركوفيسكي، المدافع الذي اعترض الكرة بعد أن سددها كوفاسيتش.
لذلك، فإن اللاعب الذي اعترض الكرة، لم يكن أحد العوامل التي احتسبها نموذج شركة أوبتا لإحصائية عدد الأهداف المتوقعة، وبذلك، لم يتم مراعاة اللاعبين المتداخلين بشكل غير مباشر بين المسدد والمرمى بشكل صحيح، ورُبما تمت المبالغة في تقدير فرص التسديد من وضعيات مُشابهة.
في الموسم الماضي، اتجه تشيلسي إلى التسديد في مناطق أكثر ازدحاماً من الفرق الأخرى. لذا، إذا بالغت نماذج عدد الأهداف المتوقعة في تقدير قيمة هذا النوع من التسديدات، فقد يُساعد ذلك في تفسير سبب تسجيل فرق بوتر أهدافاً أقل من عدد أهدافهم المتوقعة.
وهنا العودة إلى نقطة الصفر، إلى حيث تبدأ كل المشاكل التكتيكية، فبين المباراة والأخرى خلال الموسم، هناك 3 أيام فقط للتخطيط والاستعداد والراحة. ويكون المدرب وطاقمه أمام تحدٍّ لإيجاد حلول وابتكارات تكتيكية في هذه المدة القصيرة.
لذا، لا يبدو الأمر كما أن بوتر امتلك الوقت لحل هذه المشكلة، لأن جدولة كان مزدحماً جداً في الفترة الأخيرة من مسيرته، ولا يبدو أن الأجواء والظروف في تشيلسي كانت مُساعدة في الأساس، مع الأخذ بعين الاعتبار أن بوتر لم يحظ بصيف للتحضير للموسم وتقديم أفكاره وخططه للاعبيه مع تشيلسي.
لكن أسوأ ما في القصة كلها، هي فوضى التقييمات العشوائية، التي لا تأخذ بعين الاعتبار سوى النتائج وتمسح الظروف والعوامل التي تسببت بذلك، التقييمات نفسها التي صنفت توخيل في الماضي القريب كمدرب سيئ مع باريس سان جيرمان، ثم حولته إلى إله مع تشيلسي.
وبوتر نفسه، مهما بلغت عبقريته، بحاجة للظروف التي تُساعده على الإنتاج. في برايتون وجد ذلك، وإلا لم يكن ليُحقق ما حققه. في تشيلسي لم يجد ذلك. لا ظروف مناسبة، لا مشروع متماسك، لا تقدير ولا احترام، لا صفقات مدروسة بين المدرب والإدارة، تؤسس لهوية النادي، ولا رئيس يعطيه المساحة التي يُريدها، بل ملياردير يُعامل كرة القدم وكأنها موسيقى روك، كل شيء حولها يجب أن يكون صاخباً.
رُبما يقضي بوتر إجازته في هذه الأثناء في إحدى الجزر في مكان ما على هذا الكوكب، يستمتع بالتعويض الضخم الذي حصل عليه من تشيلسي، يُفكر كثيراً بالأمور التي ظُلم بها، والتي ظلم بها نفسه ومسيرته، وأنه كان من المُمكن أن تسير الأمور بشكل مختلف كلياً.
لكن الأكيد أن بوتر لا يستحق المعاملة التي يحصل عليها، ولا التقييمات النتائجية التي مسحت 15 سنة من مسيرته التدريبية بسبب 6 أشهر في تشيلسي، في ظروف صعبة، ولأنه رُبما أخفق بوتر من قبل، لكن سيكون إخفاق تشيلسي هو الأكبر والأكثر ألماً، وهو أمر طبيعي، لأن حتى العظماء يخفقون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.