لكي نحيا ما أمكننا.. لماذا يجب أن نعيش أحزاننا في وقتها؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/07/24 الساعة 11:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/07/24 الساعة 11:41 بتوقيت غرينتش
الحزن بعد الخسارة المؤلمة- shutterstock

ستبكي إذا ما انكسرت مرآةٌ، أو إذا ما انسكبَ كأسٌ، أو إن قضيتَ ليلةً بلا عشاءٍ، ستدفعُ ثمن مقاومتكَ بُكاءً على أشياء لا تستحقّ، فمثلاً: يوم العيد، بكيتُ لنصف يومٍ؛ بسبب كوني مشغولةً ولا أستطيعُ أن أطبخَ شيئاً لآكُلَهُ، أتساءل الآن: أكان هذا السّبب الفعليّ؟ فأجيبُ: حتماً لا.. لكن، لماذا نختفي وراء مثل هذه الأعذار حتّى نسمح لأنفسنا بتفريغ ما بها، أليس من الأجدر أن نبكيَ البكاء في وقته، ونحزنَ على الأشياء التي أحزنتنا وليس الذّرائع التي تُصادفنا؟

في الحقيقة، لا أعتقد بأنّ وقت الاستيعاب هو نفسه وقت الحُزن، فأحياناً نقضي أيّاماً طويلة في غير العالم الذي حدثت فيه، أحياناً يُساعدك دماغك -بعدما يتنبّأ بقرب هلاكك- بأن يُنسيك، ويجعلك شارداً عمّا آلمك، وانطلاقاً من تجربتي مع الأحزان: مؤّخراً فقط صرت أستطيعُ عيشها في وقتٍ قريب من وقتها، ذلك أنّ بإمكاني في بعضها أن أعيشها لحظتها، غير أنّي حُزتُ قناعةَ كونِ الوقت لا يكون مناسباً دائماً، أحياناً يجب أن تكونَ سندَ نفسك، وتكون أقوى ممّا تُواجهُ، الخصمُ قد يستغلّ ضعفكَ، فالضّعف لا يتمثّل في الخسارة، لأنّه أحياناً قد يتمثّل في: عدم قدرتك على الانتصار على نفسك.. هذا فيما يتعلق بصراع الحياة، لكن: ماذا عن الحزن الذي لا نملك يداً فيه؟

قبل سنوات؛ قضيتُ ليالي مؤلمة، أخاف الموتَ، أخشى أن يأخذني على حين غفلة، وبعدما تعرّفت على أستاذ الفلسفة والكاتب النرويجي "جوستاين غاردر"، آمنتُ بالحياةِ أكثر، فرأيتُ في النّاسِ يانصيباً عملاقاً، ورأيتُ في كلّ شخص منّا: جوكر حياته؛ عشتُ بغير أن أقاسيَ عذابه؛ آخر شخص أتذكّر موته كان جدّي، وكنت عندئذ صغيرةً؛ لا أفهم كُنه الغياب بغير عودةٍ؛ لهذا، لم يسبق للموتِ أن كان صعباً عليّ -فيما بعدُ- لأنّي أتفهّم قدومه، يموتُ فلان لأنّه طاعنٌ في السّن، يموتُ الآخر لأنّه متعبٌ من المرض، وهكذا، أعدّ الأسباب؛ غير أنّه مع ذلك باغتني، وكسّر ظنّي بالصّبر عند المحنةِ، ولم يجعل منّي سوى شخص صار يخاف البُعد، وتُصيبه بعض نوبات البكاء؛ هكذا؛ أجلس ثمّ أتذكّر، فأجهشُ بغيرِ انقطاعٍ، طيلة هذه الأيّام لا يُفارقني شعورُ تَكَوُّنِ ثُقبٍ في قلبي، هناك بقلبي فجوة لا أعرفُ كيف أغلقها، أتغلقُ بالتّسليم؟ لقد سلّمت بالأمرِ، وتقبّلتهُ، غير أنّي ما زلتُ حزينةً، ومن حقّي كإنسان: أن أعيش حُزني..

في نفس اليوم الذي سمعتُ خبر الوفاةِ، كنت أخطّط لبعض أمور حياتي، رأيتُ أنّها بعد أشهرٍ معدودة ستتخذ إيقاعها الصّحيح، فتخفّفت من حِمل الأيّام الثّقال التي قاسيتُها، قلتُ: أخيراً، سأستطيعُ أن أكون بخيرٍ، وكلّ شيء سيكونُ على ما يرام. لكنّ الغبيّ هو من يأمن مكر الدّنيا، تُبيتُكَ بحالٍ وتوقظك على حالٍ آخر، ففي كلّ لحظاتها تقَلّبُ حالٍ؛ في اليوم نفسه يولدُ أطفالٌ، ويموتُ أشخاصٌ، يمرضُ قويّ، ويُشفى ضعيفٌ، بين الأفراح والأحزان تتقلّب الدّنيا؛ غير أنّ ما يجبُ فهمه هو أنّ الحياة تستمرّ، شئنا أم أبينا.. ستستمرّ، وعلينا أن نمضي قدماً بلا ريبٍ.

أتذكّر أستاذ الرياضيات وهو يقرأ الأسماء الواردة في ورقة الغياب، نادى فتاة اسمها: "دُنيا"، ثمّ توقّف قليلاً عند اسمها، فقال لها: ما أعجب الدّنيا، تحملُ وصفها في اسمها؛ فالدّنيا دنيئة بوُسعها، قبل أن يتداركَ بأنّه يخاطبُ فتاةً تحملُ الاسم؛ غيّر المعنى، فركّز على جميلة، مُتجاهلاً: دناءته، في ذلك القسم نفسه، أخذت الحياة كلّ واحد منّا، قد أنظر إلى وجوههم اليوم من غير أن أعرفها؛ أو أتذكّر أسماءهم، أتذكّر واحدةً منهم، كانتَ أمامي في امتحان دراسيّ مهم؛ قبل سنة أو سنتين، توفيت هي الأخرى.. فهل كانت متعبة؟ لا.. هل كانت مريضةً؟ لا.. هل كانت طاعنةً في السّنّ؟ لا.. إنّني لا أرى في الموت شيئاً سيئاً كفكرةٍ عامّة؛ لكنّني أرى في الغياب عذاباً كبيراً.. لا أستطيعُ تحمّله.

أمام هذا الفقد المؤلم، تبدو ردّة فعلي غريبة: لم أعد أرغب في أن أحبّ أحداً وأخسره.. وصرت أدعو لكلّ الذين أحبّهم بطول العمرِ، أمزح دائماً حينما أقول لصديقاتي: من تريد أن تغادر أوّلاً فلتذهب، سأجلس بعدكم طويلاً، لن أرغب في الذّهاب أوّلاً.. لكن هأنا ذي جرّبتُ الأمر، ولا أعتقد بأنّ عذاب أن تكون الميّت سيكون أسهل من عذاب أن تكون الفاقدَ؟ لقد صرت حسّاسة فيما يتعلّق بالغيابِ، ولا أريد أن أودّع شخصاً إضافياً، ومع ذلك، لن ترحمني سنّة الحياةِ؛ فكلّنا زوّارٌ، سيأتي يومٌ نغيبُ فيه، لهذا، أتمنّى أن أمتلكَ مناعةً ضدّ الغياب، والفقد.. فهل منكم من يدلّني عليها؟ فلا يمكن أن أملكَ الإجابة دائماً وإن كنتُ المخاطِبةَ.

أتساءل دائماً: كيف كانَ القدماءُ يعيشون الفقدَ؟ تعيشُ بغير أن يصلك خبر موت عزيز ستتذكّرهُ بذكرى جميلة، إنّني أفتقد الحياة القديمة، حيث لا تفاصيل كثيرة، فقط ذاكرةٌ صغيرة، وألمٌ محدود! إنّ عصرنا مروعٌ، وسيذكّرنا دائماً؛ ويضغط على قلوبنا في كلّ مرّة.. ومع ذلك، فمهما كانت ردّة الفعل علينا أن نعيش جميعَ تفاصيلها، سيأتي يومٌ يصير فيه الحدث محض ذكرى، وسنكبر -نحن أيضاً- لنوقن بأنّ مصيرنا لمصيرهم؛ وبأنّنا سنلتقي ذات يوم، في حياةٍ غير هذه التي نعيشها.. فما أغرب أن تصير السّلوى في اللّحاق لا الانتظار..

سنغادر بلا شكّ؛ لكن علينا أن نحيا ما أمكننا.. لا يخيفني الموتُ بقدر ما يفزعني ألّا أعيش، فهأنا ذي أمضي في أيّام رّبع القرن الأخيرة، وإذا ما سُئلتُ عن هذا العُمر قلتُ بأنّه كان بلا فائدة، وبأنّني وللآن لا يجبُ أن يتمّ عدّي مع الأحياء، ما زال وجودي غير مكتملٍ؛ هكذا أراهُ دائماً! لقد قضيت العمر في الرّكض؛ والآن: لا أستطيع الاستلقاء بغير حراكٍ، أجدُ الأمر صعباً: أن أرتاح، يا لها من معضلة! ومع ذلك، لا بأس بأن تكون الأخطاء للبدايات، للأيّام التي تنهضُ وتسقطُ فيها.. ولا بدّ أن تستطيعَ ذات يومٍ أن تعيش الحياة التي تناسبك، وتكون في المكان الذي يلائمك..

إنّ الحزن محطّة مهمّة في حياتك، محطّة تملكُ إيجابياتها الخاصّة، فقط حاول ألّا تحيطك زوبعتها، أو تنسى نفسك بداخلها، ستجدُ الطّريق للفرحِ، عند أوّل استدارةٍ؛ فقط لا تكن مثلي: مُحبّاً للأحزان والدّراما.. فكلّ الآلام سائرةٌ إلى زوالٍ، وبعدَ ظلمة اللّيلِ سيطلّ الصّباحُ.. بكلّ تأكيدٍ. جميعنا بحاجة للحظات "عيش الحزن" من أجل توازن المشاعر.. فلا تخجل من ألمك، أو مشاعرك.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
حفصاء عمراوي
طالبة وكاتبة مغربية
طالبة فلسفة ومهتمة بمجالات الأمومة والطفل والمجتمع
تحميل المزيد