من الأمور التي تسلب العقل من شدة الجمال، أن ترى الرجل ينصف عدوه فضلاً عن قرابته وأهله، ولهذا أعجبني موقف "أبي جعفر المنصور" وهو يصف عدوه اللدود "عبد الرحمن بن معاوية" أو عبد الرحمن الداخل، الملقب بـــ"صقر قريش".
كما هو معلوم أن رجال الدولة العباسية لاحقوا من كان مؤهلاً من الأمويين لتولّي الخلافة، فقتلوا الأمراء وأبناء الأمراء وأبناء أبناء الأمراء إلا قلّة ممن لم تصل إليهم أيديهم، وكان منهم عبد الرحمن بن معاوية حفيد هشام بن عبد الملك بن مروان، الشاب الفتي الذي لم يكن يبلغ العشرين من عمره بعد، فقد قفز في نهر الفرات ورحل إلى مصر ومنها إلى أخواله في برقة بليبيا ومنها إلى بلاد المغرب، ومنها إلى الأندلس، وأعاد ملك بني أمية في تلك البقعة البعيدة من الأرض.
وبينما كانت بلاد العرب والإسلام خاضعة للدولة العباسية كانت الأندلس وحدها تحظى بملك بني أمية بقيادة ذلك الشاب الفتي الذي تصح سيرته أن تكون باباً واسعاً من أبواب الإلهام لدى عموم الشباب، والرجال، ومن تصدر للقيادة والسيطرة والحكم.
لا شك حاول أبو جعفر المنصور ذلك الخليفة العباسي أن يسقط حكم بني أمية في الأندلس، وأرسل الجيوش لكنه لم يتمكن من ذلك، حيث أعمل عبد الرحمن الداخل سيفه في رقاب الجيوش المرسلة من قبل أبي جعفر وعلى رأسهم جيش القائد العسكري "العلاء بن مغيث الحضرمي"، لدرجة أن أبا جعفر دعا ربه قائلاً: الحمد لله الذي جعل بيني وبين عبد الرحمن البحر.
جلس أبو جعفر يوماً بين رجالات قصره، وسألهم: أتدرون من هو صقر قريش؟
فقالوا له في نفاق اعتاد عليه رجال القصر في الغالب: هو أنت، فقال لهم لا!
فشرعوا في ذكر بعض الأسماء من نوعية معاوية، وعبد الملك بن مروان وغيرهم، فكانت إجابته: لا.
ولما عجزوا قال لهم: بل هو عبد الرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفرداً بنفسه، مؤيّداً برأيه، مستصحباً لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلداً أعجمياً فمصّر الأمصار وجنّد الأجناد، وأقام ملكاً بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه.
الإنصاف خلق قويم يحفظ المجتمعات
إن الإنصاف خلق إنساني، وإسلامي رائع علموه لمن يقبع تحت مسؤولياتكم التربوية، فبه تنصلح المجتمعات، وتتقدم البشرية، وتنتهي العداوة والبغضاء بين أبناء البيت الواحد، والقبيلة الواحدة، وأهل البلد الواحد، ذلك أن أكثر ما يملأ قلب المرء حقداً وغضباً أن يرى الآخر قد ظلمه وسلب منه حقه كذباً، وتعدياً وفجوراً.
علموا أولادكم هذا الخلق من كتاب الله (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)، ومن سنة رسول الله، فمن أجمل ما وقفت عليه في سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، ذلك الموقف الذي طلب فيه النبي من سيدنا عبد الله بن أنيس أن يذهب إلى مكة ويأتي برأس خالد بن سفيان الهذلي الذي كان يخطط لقتل النبي وغزو المسلمين في المدينة، ولما قال عبد الله بن أنيس للنبي: صفه لي يا رسول الله لأني لا أعرفه، فكان وصف النبي دقيقاً متحلياً بالإنصاف، حيث قال له (إذا رأيته وجدت له قشعريرة) يعني له رهبة في عيون من يراه.
علموا أولادكم الإنصاف من سير المؤمنين والصالحين، علموهم من سير الشرق والغرب أيضاً، فقد وجدت "ماكس هوركهايمر" أحد مؤسسي المدرسة الفرانكفورتية التي أنشئت في الأصل لإعادة إحياء البعد النقدي في الفلسفة الماركسية يشيد بكتابات "جوستاف لوبون" اليميني!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.