قبل فترة قصيرة ذهبت مع أختي لحضور حفلٍ غنائيٍ لأم كلثوم بتقنية الهولوغرام في قصر الثقافة في عمان، وظهرت فيه أم كلثوم كطيف ثلاثي الأبعاد، مما أتاح للجمهور الغفير رؤية المطربة الراحلة وكأنها حقيقية. كان الحفل سيصبح بالنسبة لي على الأقل رائعاً، وكنت سأعيش مدة ساعة ونصف في عالم افتراضي جميل، أشعر فيه بأني أمام حضرة سيدة الغناء العربي وبلا منازع ليومنا هذا، لولا بعض الأمور التي قلَّلت من استمتاعي بتلك التجربة الاستثنائية.
المفاجأة الأولى كانت عندما استهلّت الحفل إحدى قريبات أم كلثوم، اسمها سناء نبيل، بغناء رائعتها "أمل حياتي"، طبعاً لم يكن ذلك وارداً في برنامج الحفل، وحسب الإعلانات التي تم نشرها على جميع وسائل التواصل الاجتماعي. كان من المفروض أن نشاهد الطيف الافتراضي لأم كلثوم يغني ست أغانٍ، وهي:
إنت عمري وسيرة الحب وألف ليلة وليلة والأطلال وهذه ليلتي وفات الميعاد، ولكني تفاجأت بحذف آخر أغنيتين واستبدالهما بأغنيتين أخريين، هما أمل حياتي، وأنساك، قامت بتأديتهما المغنية الشابة. أعترف بأن ظني خاب قليلاً، فقد كنت أطمح وأطمع لأن أسمع ست أغانٍ بصوت أم كلثوم لا إلى أربع، ولا ألوم المغنية الشابة على ذلك، وللعلم فهي تملك صوتاً جميلاً، ولكن لسوء حظها، من الآن فصاعداً، ستتم مقارنة أدائها وصوتها، بالتجربة الكلثومية الفريدة التي مررنا بها جميعاً تلك الليلة.
أعترف مرةً أخرى، بأني صُعِقت عند سماعي لصوت كوكب الشرق لأول مرة في حفل حيّ وهو يصدح في القاعة الكبرى لقصر الثقافة وكأنها واقفة أمامنا كما كانت قبل أكثر من خمسين عاماً. أعترف للمرة الثالثة بأني ظلمتها أشد الظلم عندما كنت أفترض أن معاصريها كانوا يبالغون عندما كانوا يقولون بأن صوتها لا مثيل له، على الأقل في المشرق العربي.
عندما بدأ الهولوغرام بغناء المقطع الأول من "إنت عمري" بصوت أم كلثوم الحقيقي، والخالي من الشوائب نتيجة معالجته بالتقنيات الحديثة، لم أتمالك نفسي للحظات، فصوتها مزيج غريب من الرَّوْع والروعة، وعشت تلك الليلة تجربة شبيهة بالرحلات الروحانية الصوفية، والتي تسمو بالعقل إلى غاية حدوده ولا تتهيَّب من بلوغ نشوة الوجدان لتسلّم أمره في النهاية كله للإيمان.
أما المفاجأة أو بالأحرى الخيبة الثانية فكانت لسوء حظنا أنا وأختي، بأن أحد الحضور جاء برفقة زوجته متأخراً وبعد بداية الحفل، وللأسف جلس بمحاذاتنا، وبدأ يتحفنا بضجيجٍ صوتي لا أجد للآن تشبيهاً له، ولكن بإمكان الأنظمة الديكتاتورية الاستعانة بصوته في تعذيب المعارضين في السجون الانفرادية.
طلبت منه أختي، بأدب، التوقف عن نشاطه الصاخب المزعج، ولكنه لم يكترث وأصرّ على مشاركة أم كلثوم الغناء طيلة الحفل. الأمر الآخر الذي تعجبت منه كثيراً، أن معظم الحضور كانوا يصفقون عندما تأتي المقاطع الموسيقية الراقصة، ولكن بعضهم أصروا على أن يصفقوا حتى عندما جاء دور قصيدة الأطلال الخالدة، والتي تحتاج لكل ذرة من تركيز المستمعين لاستيعاب بعضٍ من شعرها البليغ وألحانها السنباطية وحِرفية أم كلثوم في التنقل بين الطبقات الصوتية المختلفة، وشكرت ربي أن طيفها الذي يغني وليس الأصل.
بعدها جلست في بيتي وأنا أفكر وأتحَّسر على الفارق الكبير بين مستوى الجمهور العربي في الزمن الجميل، والجمهور المعاصر. للأسف نعاني من أزمة رُقِّي وتحضر وانفلات لقوى التخلف والفوضى، ولا بد من حل سريع للَّجْمِها وإيجاد تِرياق لرفع مستويات الذوق العام.
أقدِّر بعض جهود الهيئة العامة للترفيه السعودية وخاصةً عندما قاموا في شهر مايو/أيار من هذا العام، بتكريم الموسيقار الكبير الراحل "محمد الموجي"، في حفلٍ فني يستعرض الروائع التي قام بتلحينها لعظماء الطرب العربي مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة وشادية ووردة وفايزة أحمد. كذلك، أثمِّن ما تقوم به دار الأوبرا المصرية منذ إعادة بنائها بعد احتراقها عام 1971، وافتتاحها في عام 1988، حيث تعتبر مركزاً ثقافياً وتنويرياً، يجمع ما بين تقديم العروض الفنية العالمية وتشجيع الفنون الشعبية التراثية والعربية، وتسهم في بناء ونماء الإنسان المصري والعربي من خلال التعليم والتثقيف والإبداع.
ما أحاول أن أقوله، أني أركز في كتاباتي على النقاط المضيئة النادرة التي ألاحظها بين الفينة والأخرى على الساحة الفنية العربية، منها مقالي عن المبدع عزيز الشافعي والذي ذكَّرني بالعبقري بليغ حمدي، وشجعته فيها على التعاون الفني مع المطرب جوزيف عطية، وتم ذلك من خلال أغنية "البغددة"، وطبعاً أنا لا أنسب الفضل في ذلك لنفسي، ولكن لنقل إنه كان لدينا نوع من توارد الخواطر بالانجذاب لصوت جوزيف عطية الرائع، وأتمنى أن يستمر تعاونهما في أغانٍ أخرى، ولكن بشرط أن تكون عاطفية أكثر منها راقصة. هناك أمنية أخرى أود لها أن تتحقق، بقيام الشافعي وغيره من الملحنين البارزين بالتلحين لمطربتنا الأردنية "نداء شرارة".
أنا لا أعلم لماذا يتم تجاهل هذا الصوت الرائع منذ حصوله على لقب ذا فويس (أحلى صوت -الموسم الثالث) عام 2015، فقد جذبني صوتها عندما سمعتها لأول مرة في تلك المسابقة وبالذات في جولة "الصوت وبس"، والتي يختار خلالها كل مدرب الأصوات التي تنال إعجابه دون أن يتمكن من رؤية أصحابها. حيث قامت نداء بغناء مقطع من "فات الميعاد"، ونجحت في إبهار الجميع وإظهار قدرات صوتها العالية خلال دقائق معدودة وبدون مصاحبة الموسيقى.
يقولون في الوسط الفني العربي، إن زمن المعجزات انتهى، وإنه لن تأتي البديلة لأم كلثوم ولا البديل لعبد الحليم حافظ ولو بعد ألف سنة، لكن ألا يحق لنا أن نحلم، فالغناء العربي بحاجة ماسة لصوت جميل، يحفِّزه ويثيره، ويرفعه كما فعل صوت أم كلثوم، ويبعث الأمل فيه من جديد.
بالنسبة لي، عندما رأيت الابتسامة العابرة على وجه المجهولة نداء شرارة عند غنائها لفات الميعاد في امتحان القبول لمسابقة "ذا فويس-أحلى صوت"، تيقَّنت أننا أمام ظاهرة غنائية جديدة من حيث الصوت والصورة. أخفيت غبطتي بذلك الاكتشاف، وعلى غير عادتي، صرت أتابع بشغف حلقات المسابقة برفقة صديقاتي اللواتي قمن بالضغط عليَّ في بداية الأمر لمشاهدة هذا البرنامج، حيث أصبحت في لهفةٍ مستمرة لسماع صوتها القابل للتلوُّن والتأقلم بسلاسة مع جميع الألوان الغنائية.
المشوِّق في شخصية نداء شرارة، أنها نجحت، بأدائها الراقي، بتحطيم القوالب المجتمعية والدينية الأزلية، والتي تحاول تشويه عالم الغناء، ولو جزئياً، لأن الفن ينبع من داخلها، لا من هيئتها، وصرَّحت: لست ممن يعشقون التنازل من أجل الحصول على شيء، كل ما عليك، أن تستمتع بصوتي فقط، لا أن تقيِّمني. ربما يعود الفضل في ذلك، لجدِّها الذي لاحظ أنها تملك صوتاً جميلاً منذ نعومة أظفارها، وواظب على تهيئة جوٍّ يمتلئ بألحان كوكب الشرق لحفيدته الموهوبة، وكان يُحثُّها على الاستماع لأغانيها وإعادتها، قائلاً: اشربي من ميَّة أم كلثوم… يا نداء.
بعد نجاحها في تلك المسابقة، قدمت نداء العديد من الأغاني بحيث مزجت فيها بين مختلف المدارس الموسيقية واللهجات العربية، وتنقلت ما بين الأغنية العاطفية إلى الوطنية الأردنية إلى الشبابية الراقصة، ومن الخليجية إلى المصرية فاللبنانية. بصراحة لم تَعْلق بفكري إلا أغنيتان، الأولى، "سهرانة أنا" من شعر وسام صبري وألحان تامر عاشور، وقامت بغنائها في الحلقة النهائية من برنامج ذا فويس، وأدهشت بأدائها لجنة التحكيم والجمهور. أما الأغنية الثانية فكانت بعنوان، "بعدو عطرك"، وهي المفضلة لدي، وتوقفت عندها كثيراً، لأن ملحنها "غارو كالكيكيان" نجح في إظهار خامة صوتها النادرة، وإحساسها العالي عند غنائها لمفردات شعرها، وأقصد هنا حرفياً، أن نداء هي صاحبة الكلمات البسيطة العفوية، ولكنها بنفس الوقت، تجسّد فكرة مبتكرة جميلة ومعاني حميمة تختلف عن الأغاني المبتذلة المنتشرة حالياً.
تقول بعض كلمات الأغنية:
بعدو عطرك أوفى منَّك عم يسألني كل لحظة عنَّك
بعدو عم بيذكّرني فيك وبياخدني لمطرحنا هونيك
تتركني وما فيِّي بلاك وببقى وحدي وما بنساك
ضيَّع قلبي وتنسى حبي ويبقى قلبي وعقلي معاك
بعدو طيب ما فيه يكره بعدو باسمك عم ينده
ما بعرف كيف بحبّك وإنت حالك ما بتشبه
يا ظالم يا نسَّيني وعود صار الأمل منك مفقود
فكرك بنسى لا ما بنسى ولو بنسى الله موجود
أحب عندما تشد نداء على كلمة "بعدو" عندما تعيدها للمرة الثانية، ولكن بنعومة وغنج، ثم تتدرج بالصعود للطبقات العليا من صوتها، ولكنها لا تصل إلى أعلاها، إلا حينما تصل إلى "يا ظالم يا نسيني وعود" ، ويستمر في التصاعد رنين صوتها الجميل حتى نهاية الأغنية.
أظن أن قوة نداء شرارة تكمن في كمال صوتها في الطبقات العليا وخلوّه من النشاز، ويظهر ذلك عند غنائها لوردة، وإن كان ظنّي في محله، فإنها تفوقت فى السيطرة على النغم والصوت أكثر من المطربة وردة في أوجها. بالإضافة لما سبق، فأرى أنها الوحيدة بين أبناء وبنات جيل الغناء المعاصر، التي من الممكن أن تملك القدرة على تحفيز الملحنين لتقديم ألحان راقية ذات عمق، بحيث ينشغل المستمعون في لعبة التخمين للمفاجآت التي سيشهدونها عند إنصاتهم لأغانيها مرة تلو الأخرى. أظن أن باستطاعة نداء أن تصبح أديل (Adele) العربية، هل سنحت لكم الفرصة لمشاهدة إحدى حفلات أديل الجميلة وكيف أن جمهورها ينصاع كلياً لصوتها الجبار دون أن ينبس بكلمة واحدة حتى انتهائها من أداء أغنيتها؟
صرح الملحن الكبير "عمرو مصطفى" بأنه طرح فكرة إحياء التراث الغنائي الجميل ما قبل فترة انتشار كورونا، وتمت محاربته في مشروعه حتى قبل أن يظهر. مشروعه الغنائي الجديد يستهدف إعادة التخت العربي، أي أن يتقدم المغني أو المغنية فرقة موسيقية تعزف على مختلف أنواع الآلات الموسيقية الشرقية القديمة من عود إلى ناي، فالقانون، بالإضافة إلى الآلات التي تمت إضافتها في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي مثل الكمان والأورج والتشيلو والقيثار. يقول عمرو مصطفى، إنه ينوي استعادة الموسيقى الحيَّة الراقية بدلاً من موسيقى البلاستيك الحالية، بعد أن اكتشف أن معظم أعماله تم استنساخها من قبل بعض الملحنين وإعادة غنائها حتى في حفلات مطربي المهرجانات التي خرجت عن السيطرة دون الالتفات لحقوق الملكية.
هل تتحقق أمنيتي ويلتقي مثلاً عمرو مصطفى بنداء شرارة في أعمال أنيقة كأغاني الماضي ذات الشجن، والمثيرة والمنعشة مثل بعض الألحان المعاصرة. أتخيل أن تعاونهما إذا تم ونجح سيكون أثره عظيماً كالدومينو، وسيجتاح الساحة الفنية العربية التي تعاني من التكرار الممل والاقتباسات الباهتة التي تذهب سريعاً مع الريح، والتي تخلو من محفزات الطرب والمتعة التي أوجدها السنباطي وعبد الوهاب وبليغ والموجي. أما آن الأوان لتجد نداء شرارة فرصتها الكبيرة في عالم الغناء القاسي والذي يلفظ الضعفاء دون أية رحمة؟ ألا يدرك عزيز الشافعي كما أدركت أنا وجلالة الملكة رانيا العبد الله (عندما منحتها الفرصة لغناء ألف ليلة وليلة في حفل زواج ابنها ولي العهد) بأن نداء تنفرد بين بنات جنسها في عالم الغناء العربي بأنها الوحيدة التي تمتلك موهبتي الغناء وكتابة الشعر الجميل. مرةً أخرى أعيدها، ألا يحق لنا ولنداء أن نحلم؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.