ظل التوقيت العالمي عائقاً كبيراً بالنسبة لدول مثل: الهند على سبيل المثال، في متابعة معظم مباريات قارة أوروبا أو أمريكا الشمالية والجنوبية.
فارق التوقيت حال بين محبي كرة القدم في الهند ومن يُحبونهم في قارات أخرى، وهو أمر جعل القوانين ترضخ، والمسؤولين يُوافقون، والمواعيد تتغير.
في منتصف شهر يوليو/تموز من العام 2014، كان نهائي كأس العالم في البرازيل؛ الذي جمع بين منتخب الأرجنتين صاحب النجمتين في تاريخ المسابقة، ومنتخب ألمانيا الذي كان يمتلك ثلاث نجمات في ذلك الوقت.
ليلتها، كانت الأرجنتين قريبة للغاية من تقبيل الكأس، وهي الليلة التي قال عنها الرئيس السابق للاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، جوزيف بلاتر، إنه حين صعد إلى منصة التتويج ومر بمحاذاته النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي سمعه يقول: "الأفضل لكن لست البطل".
كانت المباراة تتجه نحو ركلات الترجيح، وفي هدوء تام، نهض مساعد مدرب المنتخب الألماني يواكيم لوف؛ السيد هانز فليك، وطلب من ماريو غوتزة أن يستعد للدخول، ولم يكن أحد يعلم أن غوتزة يحمل أسوأ خبر في تاريخ الأرجنتين.
بعد دقائق من دخوله، تحرك غوتزة في فراغات الدفاع الأرجنتيني، وتسلم الكرة، وسددها، ودخلت الشباك وخرجت معها الأرجنتين تبكي لأنها تُدرك جيداً أنها لن تصل إلى هنا بسهولة مرة أخرى!
في نفس الوقت، كانت الهند تقف على قدم وساق، وأصابها ما أصاب العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس؛ صمت رهيب، كما وصفه الكاتب والمؤرخ الأورغوياني إدواردو غاليانو سابقاً في سياق آخر: "الصمت الأكثر صخباً في العالم".
لكن هذا الصمت كان أشد وطأة على شاب هندي كان يعشق منتخب الأرجنتين يدعى ميلان شودري؛ ومن لا يعرفة فهو إنسان بسيط اجتهد في دراسته وعمله، حاله حال معظم أبناء الهند، الذين يغتربون لطلب الرزق، ويبتكرون في عالم لا يأبه بهم كثيراً، كان ميلان شودري مصمماً في الجرافيك، وكان يُحب الأرجنتين لدرجة أن حسابه على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، يعج بصور بقميص أو بعلم المنتخب.
وبعد أن ساد الصمت، عقب الهزيمة، ارتفعت أصوات في المنطقة تبكي وتولول، بعد وقت ليس بالطويل، نهض ميلان من مكانه، ولم يتدارك هزيمة الأرجنتين، ولم يشعر أحد متى حدث ذلك، ولم يعرف أحد كيف حدث، لكنهم تأكدوا أن ميلان شودري قد فارق الحياة ليلتها مُنتحراً.
أكثر من مجرد لاعب
لطالما كانت كرة القدم مساحة انفجار للتعبير عن الحرية الغائبة، وطريقة رمزية للمقاومة ضد الكبرياء الغربي، إذ تحرّك فينا نحن أبناء الجنوب حاسة الدفاع عن النفس أمام هجوم السياسات والنظرات العنصرية الغربية.
وقد بدا هذا جلياً عندما وضع مارادونا يده في جيوب الإنجليز، أمام العالم كله، ولم يتهمه أحد بالسرقة؛ ببساطة لأن مارادونا شاء الله له أن يحتفظ بأفضل واقعة في تاريخ لعبة كرة القدم: مباراة إنجلترا والأرجنتين في مونديال 1986 في المكسيك.
وربما هذا ما كان يعطي القداسة لمارادونا مقابل ميسي، فالأخير لن يُصبح مارادونا أبداً، مهما فعل؛ لأن مارادونا كان يعرف كيف يُسوّق نفسه جيداً في هذه الأمور.
حيث أخذ مارادونا مباراة الأرجنتين في ربع النهائي أمام إنجلترا، على محمل الدفاع عن الوطن وجنوده، وصرح بهذا عقب نهاية المباراة قاصداً بذلك استفزاز الإنجليز بأكثر من الطريقة التي سرقهم بها: "لم تكن يدي، كانت يد الله، أهدي هذا الفوز لأمهات الجنود الذين قُتلوا في الفوكلاند".
فكان مارادونا للشعب الأرجنتيني، بمثابة المُخلّص الذي أنهى احتكار الأوروبيين على كأس العالم، والذي راوغ الدفاع الإنجليزي فتهاوى معه الانتصار السياسي للمملكة البريطانية في الفوكلاند.
بينما كان أكثر من مجرد لاعب؛ كان ثورياً ضد الاستعمار في نظر شعوب الجنوب، إذ ودعه الشاعر محمود درويش بعد فوزه بكأس العالم 1986 في مقالة قائلا: "ولمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود، وأجج فينا عطش الحاجة إلى: بطل.. بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلّق له تميمة، ونخاف عليه ـ وعلى أملنا فيه ـ من الانكسار؟".
في الهند، وفي بنغلاديش أيضاً، عرف الناس لعبة كرة القدم في الماضي البعيد؛ لأن الرياضة الأولى هناك لم تكن كرة القدم، ولأن منتخب الهند وبنغلاديش على حد سواء لا يظهر اسمهما في أي منصات رسمية خاصة بلعبة كرة القدم، لذا قرر سكان الهند وبنغلاديش أن يتخذا الأرجنتين ممثلاً رسمياً لهما، وأن يتحول منتخب الأرجنتين إلى المنتخب الرسمي هناك.
وانقسم الهنود والبنغاليون فيما بينهم على أسباب حب المنتخب، واتفقوا في حبه: فئة منهم أحبته بسبب مارادونا، وفئة أحبته بسبب ما فعله مارادونا بالإنجليز تحديداً ومنح دولته انتصاراً كروياً بطابع أبعد منه، وجعل الشعب الهندي والبنغالي يشعر بانتصار هو الآخر، ضد ما أذاقه الاستعمار البريطاني لهما، وفئة رأت كرة القدم لأول مرة في عصر دخول التلفاز، ربما في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، ومن هنا حدث الانقسام الكبير الذي يتفق في نهايته على شيء واحد!
من وقتها ظلت الأرجنتين محافظة على هذا القدر من الحب، فأبت أن يرحل مارادونا قبل أن يخلف أسطورة جديدة؛ اسمها ليونيل ميسي.
وداعاً أيها العالم
في عام 2014 وتحديداً ليلة نهائي كأس العالم في البرازيل كانت الأرجنتين ومحبوها أمام سيناريو مثالي أمام منتخب الألماني، وكانت على بُعد خطوة من معانقة الكأس، إذلال منتخب البرازيل للتسيد أمريكا اللاتينية بجلب الكأس من أرضها والتتويج بها على أشهر ملاعبها "الماراكانا"؛ نفس الملعب الذي بكت فيه البرازيل طويلاً عام 1950 عندما انهزمت أمام الأوروغواي في نهائي نفس البطولة.
كانت هذه نفس الليلة الذي كتب فيها ميلان شودري: "وداعاً أيها العالم". والتي قرر وقتها أن يربط شيئاً ترفيهياً بحياته نفسها؛ فتحولت معه حياته إلى جحيم ثم انتهت، فلم يتحمل أن يرى منتخبه المفضل يخسر بهذه الطريقة في الماراكانا.
حينها، قرر الحُزن أن يُخيم على الهند مرتين: الأولى لهزيمة المنتخب الأرجنتيني، والثانية لخسارة ميلان شودري.
وكان للشعب الهندي والبنغالي أن يعيش المرار كله فيما بعد؛ حيث خسرت الأرجنتين بطريقة غريبة، أمام نفس المنتخب، وتحت لواء نفس البطولة، وبنفس النهاية: منتخب تشيلي في كوبا أمريكا 2015 و2016.
النهايات التي تعرض لها منتخب الأرجنتين كانت توحي دائماً بأن هذا المنتخب لن يُكتب له أبداً أن يقف على منصات التتويج بعد الآن، خاصة أن مهارة لاعب مثل ليونيل ميسي لم تشفع له بأن يجلب لا كأس العالم ولا حتى بطولة كوبا أمريكا.
وتعاقبت الأجيال على المنتخب، ووصل جيل من الشباب يتسند عليه القائد في كِبره، وكُتب له أن يختتم مسيرته بنهاية ربما لا تخطرعلى ذاكرة أي إنسان، لا كاره له ولا مُحب.
لم يكن ميلان شودري يعرف أن هذا الفيلم المثير، الذي يتخذ مساراً غريباً في منتصف الأحداث؛ سيُختتم في قارة ميلان نفسها، وسيرى ميسي يرتدي ثياباً عربية كالتي يرى الرجال يرتدونها في دول الخليج العربي، وسيحمل الكأس الغالية بين يديه ويُصفق الناس له، حباً فيه واحتراماً له على إصراره الكبير حتى الرمق الأخير.
أسدلت كرة القدم الستار على أجمل فصول قصتها بسعادة كبيرة لميسي، وللشعب الأرجنتيني، وللهند وبنغلاديش أيضاً، لكن الغائب الأبرز عن كل هذه الإنجازات كان ميلان شودري ودييجو أرماندو مارادونا ذلك المتعجرف القصير الذي غرس هذا الحب في قلب ميلان شودري وكل المهمشين أبناء العالم الثالث في الجنوب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.