في سلسلة من سلاسل كتابات الأستاذ مصطفى بيومى، تناول فيها شخصية الرؤساء السابقين لمصر؛ محمد أنور السادات، وجمال عبد الناصر، والإخوان، والحجاب، واليهود في الرواية المصرية، إذ يفطن الأستاذ مصطفى إلى أنه لا يستطيع الإلمام بكل كتابات الروائيين إجمالاً ولا حتى الروائيين الذين اختارهم للتعبير عن الرواية المصرية.
اختار الكاتب مصطفى بيومي 36 روائياً من أجيال مختلفة وبمدارس أدبية مختلفة ومواقف أيديولوجية متباينة في كتابه عن اليهود في الرواية المصرية، واستلزم ذلك قراءة في أكثر من سبعين رواية.
أما في كتابه "عبد الناصر فى الرواية المصرية" فتعرض لثمانية عشر روائياً، مقتفياً أثر عبد الناصر في الرواية والقصة المصرية، وتجشم الكاتب مصطفى بيومي عناء التنقيب في شخصيات الأدب للوصول إلى موقف الكاتب، الذي أعلن عن مراوغة ذلك الهدف في عدة حالات، فلم يكن موقف الكاتب/الراوي في بعض الأحيان واضحاً، بل مضمراً بعمق في أغلب الأحيان. رغم ذلك لاحظ وتتبع بيومي تغيراً في توجهات ليس فقط شخوص الروايات، ولكن كان تغيراً في معتقدات الروائيين تجاه عبد الناصر وتجربته.
وقد نجح الكاتب مصطفى بيومي في رسم الموقع الذي يحتله جمال عبد الناصر في الرواية المصرية عبر قراءته وتحليله لمكانته في إبداع عدد من الروائيين، ينتمون إلى أجيال مختلفة، ومدارس فنية متباينة، واتجاهات فكرية وسياسية متنوعة.
ففي أحيان كثيرة كانت زاوية الرؤية وخواتيم القصص والروايات تتماشى مع قناعات الروائيين الأيديولوجية، لكن الكاتب مصطفى بيومي كان واعياً وحريصاً بذلك، فتتبع سيولة الأفكار والانحيازات لديهم، والانتماءات السياسية والأيديولوجية الموزعة بين اليسار بدرجاته، والليبرالية بأطيافها، والاستقلالية التي يصعب تصنيفها أحياناً، وعامل آخر مهم يضيف لقيمة الكتاب هو الفارق في العمر بين هؤلاء الكتاب؛ إذ إن الفارق بين أكبرهم نجيب محفوظ، وأصغرهم، أحمد مراد، يقترب من 75 عاماً.
ويتتبع في كتابه كيف أن التجربة الناصرية شكلت الحلم والكابوس معاً لمعاصريها، بينما ما زالت -بحسب اعتقاده- تداعب أحلام أجيال من الشباب اليوم، لأن التاريخ تكتبه الزعامات كما يعتقد الأستاذ مصطفى بيومي شخصياً، ولأن ناصر أيضاً كان علامة تاريخية فارقة، فلا بدَّ لها من إيجابيات وسلبيات كثيرة، لذا حسب قوله كان لا بد الاقتراب من الحقيقة بدون تشنج أو إسراف انفعالي.
رغم حيطة الأستاذ مصطفى بيومي في منطقة الاستقصاء الموضوعي، داعبتني بقوة قراءاتي الفلسفية عن طبيعة الإدراك الفردي وطريقة بناء الوعي الجمعي، فهناك من الفلاسفة من يهدر الحقيقة الموضوعية لصالح الإدراك الذاتي النسبي، وهناك قضايا تخص الإيحاء والتكريس، خصوصاً تحت نظام قمعي وتحكم مانع في الإعلام ووسائله الحديثة.
كما أن هناك مدارس في علم الاجتماع، وبالذات علم الاجتماع السلوكي، والتي تحفز الأفراد على اتخاذ مواقف أو حتى تحريف الإدراك لصالح الامتثال الاجتماعي أو حتى المحفز بالمزايا أو العقوبة (نظرية العصا والجزرة)؛ لذلك أرى أن المعاصرين لتجربة عبد الناصر تعرضوا لأقسى حملات الأدلجة القسرية في المدارس والجامعات والوظائف بواسطة وسائل الإعلام، بل إن الحقائق الرئيسية ما زالت لحد الآن تغيب عن المواطنين فيما يخص -ليس فقط عبد الناصر- لكن كل طبعات الدولة العسكرية القائمة اليوم.
بمعنى أنه مهما كان صدق الروائي وتغلغله في نفوس الشخصيات الروائية، ومهما كان حسه الفني والمحاكاة الفكرية والوجدانية، فلا يمكن للروائي مهما كانت عبقريته -بافتراض سلامة ضميره وسريرته- أن يعبر عن عالم غير موجود لغياب حقائقه، فالروائي يعبر عن عالم يدركه بمثل إدراك مواطنيه أو ربما أعلى قليلاً من المواطن العادي بحكم خبراته أو نفاذه لآليات صنع الواقع الإنساني.
وسأعطي مثالاً لتلخيص نقاطي بالفلسفية والسلوكية: "فريد" هو ضابط برتبة ملازم أول في جيش الجوهرة، قاد سرية من الجنود مكونة من 100 جندي، في معركة ناجحة ضد العدو، أسر من العدو 20 فرداً وقتل منهم 20 آخرين، ويقول في مذكراته إن التدريب الجيد والإعداد الذي قام به هو سبب الانتصار، إنه تغافل عن بعض تعليمات العميد "سليمان" قائد اللواء لأنه غبي. هل نستطيع هنا من خلال شهادة الضابط "فريد" أن نخلص إلى مفتاح انتصار جيش الجوهرة في المعركة؟ أو أن نستنتج حكماً قيمياً بأن تدريب جيش الجوهرة ممتاز وأن الضباط الصغار برتبة ملازم أفطن وأنجح من الضباط برتبة العميد؟!
إن رؤى الكاتب الواحد حتى ولو كان مثل نجيب محفوظ ظلت ناقدة، لكنها لم تفصح بشكواها كاملة إلا بموت الزعيم، بينما كاتب مثل إحسان عبد القدوس والذي أحسبه شخصياً فيما يخص عبد الناصر أو اليهود يكتب بميزان حساس -ربما انتهازي ونفعي- فهو لا يصدم لا السلطة ولا القارئ بأكثر مما لا يستوعبه وعيه أو منطقه، فهو كان صحفياً تجارياً وكاتباً تجارياً أيضاً، أما عن كاتب مثل صنع الله إبراهيم أو فتحي غانم أو عبد الرحمن الشرقاوي، فهم يكتبون في المقام الأول من منطلقاتهم الأيديولوجية من البداية للنهاية، وأخيراً فيما يخص الأجيال الجديدة مثل علاء الأسواني أو أحمد مراد كل بطريقته كفر بالنظام العسكري الذي كان ناصر أول خيطه.
ما لاحظته ضمن روايات كثيرة مصرية بالكتاب، هو رسمها لشخصيات روائية تؤكد غالبيتها التمسك بعبد الناصر يوم 9 و10 يونيو، وأن حرب أكتوبر قد انتصرت للإرادة المصرية "الناصرية"، بينما لم يلتفت أحدهم لاحتجاجات عام 1968 حين نزلت الجماهير إلى الشوارع في أول احتجاجات من نوعها في تاريخ نظام ناصر احتجاجاً على زعيمهم الموقر، بل إنه ليس من بين 18 روائياً مصرياً من يعرف لماذا نشعر بالمرارة والانكسار والألم تجاه وطنيتنا بداخلنا وخارجنا رغم سردياتنا المنتصرة وإنجازاتنا الفريدة في كل المجالات كما يؤكد السيد الرئيس اليوم وحاشيته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.