نظام العدالة في فلسفة هيغل.. من مبدأ الحق إلى مبدأ القانون

عربي بوست
تم النشر: 2023/07/20 الساعة 11:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/07/20 الساعة 11:48 بتوقيت غرينتش

إن التحقق الموضوعي للحق "يعتمد أولاً: على وجوده أمام الوعي، أعني أن يكون معروفاً بطريقة أو بأخرى للآخرين، ويعتمد ثانياً: على كونه صحيحاً، وأيضاً على أن يُعرف على أنه صحيح على نحو كليّ".

 هذا الوجود الموضوعي هو ما يجعل الحق قانوناً، والحال أن الحقوق المجردة لم تتحول إلى قوانين إلا بسبب الخاصية الأساس للمجتمع المدني وهي "الاعتماد المتبادل" حسب هيغل، فضلاً عن أن الحق المجرد كان "أدنى أطوار الحق الثلاثة، فإن الحقوق المجردة ليست محصَّنة ضد تدخل المجالات الأعلى مثل: الأخلاق الفردية، والأخلاق الاجتماعية"، بيد أنه في حالة القانون يقول هيغل إنه أصبح يكتسب طابع الكلية والتعين الحقيقي. 

لكن القانون العرفي لا يتضمن الميزات التي ذكرناها سابقاً؛ لأنه قانون أقلُ تَعيُّناً، كما أنه أقلُ وضوحاً من ناحية كلية الفكر، وفي حال قامت أمة بجمع هذه القوانين العرفية، يكون حَاصِلُ جمعها "تجميع ميت لا شكل لها، والفارق بينها وبين القانون الجدير بهذا الاسم هو أن القانون توجد فيه مبادئ التشريع في صورة كلية".

في هذا السياق، يَذكر هيغل مثال القانون القومي الإنجليزي الذي وقع فيه "خلط" من حيث وجوده في قوانين مكتوبة (التشريعات)، وأخرى غير مكتوبة (العرف)، بل بلغ به القول إنه "لن تكون هناك إهانة لشعب متمدين أو لمشرِّعيه أعظم من إنكار قدرته على وضع القوانين في كليتها المتعينة، ثم تطبيقها بعد ذلك على الحالات الجزئية".

 يشير هيغل هنا أن على الإنسان سَن قوانين لنفسه، والحديث هنا عن القانون الوضعي الذي يجعل من الحق متعيناً وملزماً. وينبه هيغل إلى احتمال حدوث تعارض بين مبدأ الحق ومضمون القانون بسبب العرضية والظروف الجزئية، لذا يلزم أن نعتمد حسب هيغل على علم القانون الوضعي الذي يتميز عن الفهم (عنصر التوفيق والمصالحة)، بأن علم القانون الوضعي "يدرس" القوانين، وعملية تقدمها في التاريخ، حتى يصل إلى مضامينها النهائية، لكن عنصر الفهم يعمل على "تحليلها وتطبيقها على فئات خاصة، وتقسيمها إلى أقسام ثم أقسام فرعية".

هيغل

إلى جانب هذا، فقد حدد هيغل عقلانية قانون معين بضرورة اتصافه بصورة القانون الوضعي، ومن ثم تطبيقه على كل من الروابط الاجتماعية والمجتمع المدني، لكن قد يسأل سائل: ما هو معيار تحديد عقوبة من يخالف هذه القوانين؟ وكيف يحسم فيها؟ للإجابة عن هذه الأسئلة يقول هيغل إن العقل والفكرة الشاملة لن يستطيعا الحسم في ذلك، "والحق أن القانون لا يحسم مثل هذه القرارات النهائية التي تتطلبها الحياة الفعلية، وإنما يتركها بدلاً من ذلك لحرية القاضي".

 بيد أن شرط إلزامية القوانين حسب هيغل أن يعرفها كل الناس، وألا تخفى على أحد، حتى لا يظلم أحد، وأن عليها الاتصاف بالبساطة لأنها تصطدم بمادة متناهية، الأمر الذي يفسره هيغل بحق استكمال القاعدة التشريعية، "ومن المستحيل أن يكون قانون ما كاملاً ونهائياً، بسبب مقتضيات التطور التاريخي وما يستوجبه من مزيد من التعديل، بل والإلغاء في بعض الأحيان".

تبعاً لذلك، يمكن الحديث عن حيازة الملكية وانتقالها بواسطة عقد مشترك كما بيَّن هيغل، لكن سوف يترتب على ذلك توسع دائرة الجريمة، غير أن انتهاك حق الفرد الآن أصبح انتهاكاً يمس روح المجتمع، وهذا الأخير لن يتوارى عن عقاب "الأشرار" عن طريق القانون الجنائي بحسب هيغل.

ممارسة الحق

تطبيق القوانين والحرص عليها يدخل ضمن مهام المحكمة، وتتجلى مهمتها في جعل الحق واقعاً لحالات فردية معينة، ويصف هيغل المحكمة رفقة مهنة القضاء بالمؤسسات "الشرعية العقلية"، في المقابل يقدم أمثلة عن سوء استحكام العقل، منها ما ورد عن السيد ڤون هالر [Von Haller] أن النظام القضائي كَرَمٌ من جانب الملوك ولا يستحق أن يكون ضرورة؛ وقد يثأر الإنسان لنفسه دون اللجوء إلى القضاء، في هذا الصدد يقول هيغل إن هذا الفعل لا مبرر له؛ إذ إن المحكمة "تأخذ على عاتقها ملاحقة الجريمة وردعها".

وذلك ما يفضي إلى مصالحة ذاتية (تصالح الحق مع ذاته)، ومصالحة موضوعية (تصالح القانون مع نفسه)، ومنه دعم وجود الحق الذي يثبت أمام القضاء عبر مسار قانوني يحتكم في ثناياه إلى البراهين والحجج والشواهد، كما تنطبق هذه الخطوات على كلا الطرفين. لكن هيغل يلمح إلى احتمال تجنب هذه الإجراءات القانونية وسوء استخدامها عبر تسوية الخلافات ومحاولة الصلح خارج إطار القضاء. ويأتي بعد مسار التحقيقات والإجراءات القانونية دور القاضي لتقديم الحكم النهائي، في هذا الإطار "لا يشترط أن تتكون المحاكم من قاضٍ واحد فحسب، فالمسائل المعروضة يمكن أن تطرح على مجموعة من المحلفين كما تُعرض على القاضي [أداة القانون] سواءً بسواء".

ويحاول القاضي أن يفهم نية الفاعل وبصيرته بالاطلاع على وقائع القضية، ومن ثم الاعتماد على جزئيات خاصة مع المعاينة الحسية (في حالة المضمون التجريبي)، بعدها يعتمد الأمر على الضمير (القسم).

 والحق أن النطق بالقانون يشترط وجود محاكمة علنية، وأن يكون القانون معروفاً للطرفين (حق الوعي الذاتي)، هذا ما ألمح إليه هيغل بقوله إن: "حضورهم البدني [في قاعة المحكمة] ليس سوى أمر تافه إذا ما غابت عقولهم ولم تكن هناك هي الأخرى، أعني إذا لم يتابعوا الإجراءات وهم على علم بها، وإذا كانت العدالة التي يحصلون عليها تظل بالنسبة لهم مجرد حكم يُنطق به من الخارج".

بناءً عليه، الفكرة الكلية حسب هيغل اختفت في جزئية المجتمع المدني، بيد أنها ستعود لتتحقق فيه، لتشمل نطاق الجزئية بأكمله، وذلك بواسطة الشرطة، والنقابة خاصةً.

النقابة والشرطة (القوة العامة)

أ- الشرطة (القوة العامة)

تحرص الشرطة على ضمان سلامة المواطنين، وهي تنظيم خارجي، ومهمتها سلبية تتجلى في ضمان أمن الملكية والشخصية حسب هيغل، حيث إن هذا المجال بعيد عن النصوص الشاملة للقانون؛ أي إنه يحتمل العرضية، خاصة أن أفعال الأفراد تحتمل الخطأ باستمرار في ضوء غياب حدٍ واضحٍ بين ما هو صالح وما هو طالح، وبمقتضى ذلك جاءت فكرة مراقبة الشرطة. والحق أن الشرطة كما ذكر هيغل ضرورية في إحلال التوافق بين المستهلكين والمنتجين، حيث تفحص السلع، وتحارب ظاهرة الغش.

 إلى جانب هذا تضمن الشرطة للفرد المشاركة في الثروة الجماعية، بيد أنها مشاركة خاضعة لعرضية الجانب الذاتي، ومنه كانت الشرطة ضرورية لتجنب تضارب المصالح من جهة، والسعي للتخفيف منها من جهة أخرى.

صار اعتماد الفرد على نفسه ضرورةً مُلحةً مع انتقاله إلى المجتمع المدني، حيث حل المجتمع المدني محل الأسرة، "وهكذا يصبح الفرد ابن المجتمع المدني الذي عليه الكثير من المطالب، كما أن له ضده الكثير من الحقوق أيضاً".

من ثم صار لزاماً على المجتمع المدني توفير تسهيلات للتربية العامة غير عرضية الوالدين، مثلما أن عليه توجيه الأفراد إلى غايات المجتمع المدني، وفي هذا الصدد فإن الشرطة حسب هيغل سوف تتخذ موضع الأسرة إزاء الفقراء؛ لأنهم أصبحوا بحاجة لامتيازات المجتمع المدني، وذلك يعتمد بالخصوص على العمل المنظم، فضلاً عن العمل الإحساني، وهنا يشير هيغل إلى أهمية تنظيم المساعدات العامة بسبب تنامي الفقر؛ لأن "المجتمع المدني [إذا عمل] دون أن يلقى عائقاً، فإنه يزيد من عدد سكانه باستمرار، وينمي الصناعة في داخله، ويتزايد اعتماد بعضهم على بعض في تحقيق حاجاتهم ووسائل الإنتاج. فإن الثروات تتزايد، كذلك يتزايد التخصص وتحديد العمل الجزئي".

وفقاً لذلك، أشار هيغل إلى "طبقة الرعاع"، ومن أوصافها: عدم احترام القوانين، وفقدان الشعور بالأمانة واحترام الذات، لأن فئة قليلةً من الناس تمتلك جُل الثروة. وفي عملية تقديم المساعدة لهذه الطبقة، يدعو هيغل إلى عدم خرق مبدأ المجتمع، ويتم ذلك بتقديم المساعدات بطريقة غير مباشرة حتى لا يهان الأفراد في كرامتهم وحسهم بالاستقلال، ويقترح في هذا الصدد تقديم يد العون عبر إتاحة فرصٍ للعمل، لكن ذلك سوف يرفع  من خط الإنتاج في مقابل نقص عدد المستهلكين؛ الأمر الذي سيشكل خطراً.

 استنتج هيغل من هذا التفسير أن المجتمع، وإن امتلك ثروة ضخمة، لا يكون ثرياً بما يكفي في مواجهة الفقر المتزايد. وهنا، ذكر هيغل أمثلة لبعض الدول التي جعلت من التشرد حلاً لظاهرة الفقر، لكن لحل هذه المشاكل الداخلية كان لزاماً على المجتمع المدني "تجاوز حدوده الخاصة والبحث عن أسواق جديدة، وعلى ذلك فإن وسائله الضرورية للبقاء توجد في البلاد الأخرى".

في هذا الإطار، فإن الحدود التي تصل بين الدول برية من جهة، وبحرية من جهة أخرى، بيد أن هيغل اهتم أكثر بالطرق البحرية، لأنها تتسم بخلق الروابط التجارية، إضافة لكونها وسيلة قوية للتبادل الثقافي بين الشعوب. وفي هذا الصدد تحدث هيغل عن الروابط القديمة؛ إذ قال عن المصريين والهنود إن إهمالهم للملاحة جعلهم يتيهون في خرافاتهم عكس الدولة التي ازدهرت بسبب اقتحامها لعالم البحار. أما دور الشرطة، حسب هيغل، فيتجلى في كونها الموجه للمصالح التي تتجاوز الحدود، حيث تحمي الغايات الجزئية التي تتضمن داخلها الكليّ، وهو غايتها وموضوع إرادتها، وحوله "تدور المبادئ الأخلاقية لتقود وتظهر في المجتمع المدني بوصفها عاملاً كامناً فيه، وهذا هو ما يشكّل الطابع النوعي الخاص للنقابة".

ب- النقابة

يرجع أصل "كلمة  Korporation إلى نقابات الحرفيين في روما القديمة، وهي ليست "اتحاداً للتجارة" مادامت تضمُ المستخدِمين والمستخدَمين".

هذا التعريف يربط النقابة مباشرة بطبقة التجار والصناع. وما يجمع الأفراد في النقابة، حسب هيغل، هو مصلحتهم الخاصة التي تؤكد نفسها على نحو كليّ، وشرط الانضمام إلى النقابة هو المهارة الجزئية، وأن يكون الفرد "أصبح أو سوف يصبح معلم حرفة، فهو عضو رابطة لا يقصد ربحاً عارضاً في مناسبات معينة، وإنما هو عضو فيها من أجل النطاق الكليّ لمعيشته الشخصية كلها".

كما أن حقوق النقابة التي حددها هيغل تحت إشراف الشرطة تجعل من النقابة الأسرة الثانية لأعضائها بعد المجتمع المدني، الذي يشمل كل الأفراد ويبعدهم عن مطالبهم الخاصة. أما امتيازات النقابة، حسب هيغل، فهي مجرد "بلورة في صورة قوانين للخصائص الكامنة لفرع جوهري من المجتمع نفسه ينتمي إليه بوصفه جزئياً".

ومن ثم هي ليست بمعنى خاص أو تتخذ صفة القانون. 

وتتخذ الأسرة حسب هيغل قدماً راسخةً في النقابة، لأنها تعتمد على وجود دخل ثابت. 

في هذا الصدد، فإن عضو النقابة بانتمائه إلى هذا الكل لا يعني أنه خارج دائرة المجتمع المدني، بل يُعنى تماماً بتحقيق هدف عام نسبياً، وهذا ما يجعل طلبه للاحترام خيراً على وضعه الاجتماعي، وبإبعاد الزراعة والملكية الخاصة عن الطبقة الصناعية وميكنة العمل، سوف يزداد ترف الطبقات العامة، وسوف يظهر الرعاع. والفرد الذي لا ينتمي للنقابة لن يجد من يحمي كرامته، ولن يتمكن من التدرج في عمله بحكم حجج لا حصر لها، ويلمح هيغل إلى أن الفرد لن يجد طبقة غير هذه لينعم فيها بالشروط الضرورية لحياة كريمة، لأنه لا توجد مثل هذه الطبقة، لكن النقابة موجودة، وهي مشروعة وقانونية، ويصبح تقديم العون إلى الفقراء بعيداً عن صفة الإذلال والمهانة، في الوقت نفسه الفئة الثرية بعمل واجباتها سوف تعطي لثرائها صفة المشروعية والاعتراف.

من ميزات النقابة أيضاً، أنها تُوحّد أعضاءها خارج دائرة العرضية والرأي الشخصي، لأنها، بحسب هيغل، تضمن لهم حقهم الطبيعي في التطور الذاتي بحيث ينالون الاعتراف، من ثم يرتفع جهدهم الواعي لأجل تحقيق هدف عام ومشترك، "هكذا يبالغ هيغل في تمجيد النقابة، وينسى النواحي السلبية، وما أكثرها! لأن النقابة بتزويدها أعضاءها بهذه المزايا، تثير في الوقت نفسه في نفوسهم الأنانية النقابية، وتحدي السلطة القائمة في المجتمع… والسبب الذي حجب عن هيغل مساوئ النقابات هذه هو أنه في عصره لم يكن للنقابات هذه القوة الهائلة التي لها في القرن العشرين".

بيد أن هيغل يقول إن النقابة هي الأساس الثاني للدولة بعد الأسرة، حيث تتحد فيها لحظتا الجزئية والكلية، وإلى جانب الزواج يتجنب المجتمع المدني التفكك الكامل، غير أن النقابة متناهية والشرطة نسبية، لذا ستظهر حقيقتهما في الغاية الكلية (الدولة).

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
حمزة الودان
كاتب وباحث في الفلسفة
كاتب وباحث في الفلسفة
تحميل المزيد