ستظل الهجرة النبوية ذكرى خالدة لكل المسلمين؛ لكونها تؤرخ للحظة التأسيس الأولى لأمة سيدنا ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وحري بنا أن نتوقف في هذه الذكرى العظيمة، لنستحضر تلك اللحظات الأولى للتأسيس اعتباراً بها وتأسياً برسولنا الكريم في منهجه الإصلاحي العام، وفي بنائه لقواعد ومقومات هذه الأمة بهدي من الوحي الكريم، فماذا يمكن أن نستحضره من عبر من تلك اللحظات العظيمة في تاريخ أمتنا؟
ينبغي التأكيد في هذا المقام أن الاقتداء برسولنا الكريم يقتضي أيضاً اقتفاء أثر مواقفه الحركية في مسيرة التصحيح والإصلاح التي قادها لإرساء وبناء الحياة القويمة للأمة الإسلامية، يتطلب هذا الاقتفاء تأملاً عميقاً لهذه المواقف، واستجلاء مبسوط لموازناتها الحكيمة في حالها ومآلها وما أفضت إليه. لتساعدنا اليوم في بسط طريق ومشروع مجتمعي سليم قائم على مبادئ تعاليم ديننا الحنيف، تلك العبر قد تنفعنا حالياً في ترشيد وتصويب الاجتهادات ذات المرجعية الإسلامية في المجال السياسي والمجتمعي عموماً.
العبرة الأولى: فتح المدينة نموذج للفتح السلمي المدني دون "غزوات"
بالنظر إلى هجرة النبي إلى المدينة يتبين أن الأساس ليس الغزوات، ذلك أن هذه الواقعة تؤكد بجلاء أن الأصل في البلاغ والفتح وإرساء الحياة الإسلامية هو الحوار والإقناع بالحجة والبرهان إذا ما توفرت شروط الحرية لذلك، فها هو مصعب بن عمير يكلفه نبينا الكريم بعد بيعة العقبة الأولى التي حضرها 12 نقيباً من أهل يثرب، للذهاب إلى المدينة ولتعليم الناس هناك مبادئ الدين ومقاصد الرسالة الإسلامية، فلقد "بعثوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام: أن ابعث إلينا رجلاً من قبلك، فيدعو الناس بكتاب الله، فإنه أدنى أن يتبع، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، فنزل في "بني غنم" على أسعد بن زرارة، فجعل يدعو الناس سراً، فيفشو الإسلام ويكثر أهله…"، ومكث مع القوم يؤدي مهمته على أحسن وجه، وبعد عام عاد مصعب في موسم الحج ومعه بضع وسبعون نفراً، فكانت البيعة الثانية التي ستؤسس للهجرة إلى المدينة، وبالتالي للفتح.
العبرة الثانية: بيعة العقبة الأولى والثانية تأسيس للأمة التي ستصنع دولتها
كانت بيعة العقبة الأولى بيعة على الإيمان بالله والالتزام بهذا الدين، ولقد تمت بعد أن التقى رسولنا الكريم بستة أنفار من أهل يثرب في موسم الحج في عام 10 من النبوة، ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا، إذ "لما لقيهم رسول الله ﷺ قال لهم: "من أنتم؟". قالوا: نفر من الخزرج. قال: "أمن موالي يهود؟". قالوا: نعم! قال: "أفلا تجلسون أكلمكم؟". قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
قال: وكان مما صنع الله بهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبياً مبعوثٌ الآن، قد أظل زمانه، نتبعه نقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فلما كلَّم رسول الله ﷺ أولئك النفر ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك….".
كان ذلك اللقاء ممهداً لبيعة العقبة الأولى التي تمت في العام التالي في موسم الحج، وقد حضرها 12 رجلاً، "التقى هؤلاء برسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى، فبايعوه بيعة النساء، أي: وفق بيعتهن التي نزلت بعد الحديبية.
وقد روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعالوا بايعوني على ألاَّ تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعُوقب به في الدنيا، فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله، فأمره إلى الله؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه". قال: فبايعته -وفي نسخة: فبايعناه- على ذلك".
وهكذا كانت بنود هذه البيعة التي شكلت اللبنة الأساسية لبناء الأمة في المدينة ستكتمل بلبنات أخرى؛ منها بناء المسجد النبوي، ثم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ستكون اللبنة الأساس للدولة التي ستحتضنها هذه الأمة.
العبرة الثالثة: ما ورد في صحيفة المدينة
بعد ذلك، تم وضع أول دستور مدني للدولة؛ إذ كان بمثابة التأسيس للمرجعية العليا التي ستنبني عليها دولة المدينة، وهي الدولة التي وإن أقرت بألا فصل بين الدين والدولة، إلا أنها أقرت أيضاً بوجوب التمييز بين أمة الدين (الأنصار والمهاجرين) وبين أمة الحضارة، أي بالاعتراف بالتنوع من داخل بنية القاعدة الاجتماعية العامة للمدينة، وبنود الصحيفة حسمت هذا الأمر بالاعتراف بمواطنة أهل الكتاب في ظل دولة الإسلام، إن النظر في بنود صحيفة المدينة يؤكد أن دولة المدينة لم تعتبر "أحادية الاعتقاد" شرطاً في المواطنة، تقول:
- إن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
- وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
- وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه.
- وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
- وإن النصر للمظلوم.
- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل؛ وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وإنه لا تُجار قريش ولا من نصرها.
- وإن بينهم النصر على من دَهَم يثرب، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.
هكذا اعتبرت وثيقة صحيفة المدينة أن ساكنة المدينة من المسلمين واليهود هم مواطنون بالدولة الإسلامية، ولهم حقوق كما لهم واجبات كما أكدت الصحيفة، فهم ينفقون مع المؤمنين ماداموا في حرب، يتناصرون فيما بينهم نصرة للمظلوم وحماية لهذه الصحيفة، ويتناصحون فيما بينهم.
بالتالي صفة الدولة الإسلامية في وقتها تختلف عن صفة الدولة الدينية المشوهة بتعريف اليوم، التي لا لون في مواطنتها إلا لون ديني واحد، وما عداه في درجة ثانية أو ثالثة من درجات المواطنة.
الخلاصة أن مسيرة ومنهج النبي عليه الصلاة والسلام في التغيير والتصحيح والإصلاح كانت تعتمد على مبدأ الاختيار الطوعي للدين أولاً دون إكراه، ومن ثم مبدأ التعاقد والتعاهد. وأن الأصل في تبليغ الرسالة وإقناع الناس بها هو الحوار، وهذا ما حدث من خلال الانتشار والفتح المدني السلمي للمدينة المنورة.
بالتالي يكون الأصل في بناء الدولة باعتبارها إطاراً تنظيمياً للتعايش، لا يشترط اكتساب المواطنة فيه الاعتقاد بقدر ما تشترط الالتزام ببنود التعاقد بين أبناء الوطن، الذي يحتضن جميع مواطنيه بالعدل، سعياً لبناء الحضارة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.