عن معجزة أطفالنا اليومية.. إنهم يتغيرون باستمرار!

عربي بوست
تم النشر: 2023/07/19 الساعة 10:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/07/19 الساعة 10:48 بتوقيت غرينتش

ما زلت أذكر ذلك اليوم، حين نظرت لابني يونس طويلاً، كان يرقد إلى جواري، غائباً في عالم ملائكي، بينما أفكر أنا في المعجزة التي سوف تجعله شخصاً آخر خلال سنوات قليلة، رحت أتأمل ملامحه، في محاولة للتخمين كيف سيكون شكله في عمر السنة، ماذا عن عمر المدرسة، حسناً كيف سيكون حين يصير شاباً، بأمر الله، من سيشبه؟ كيف سيكون؟

 كان وقتها لا يزال طفلاً حديث الولادة،  يركل بقدميه حين تضيق معدته بحليب الرضاعة، أو تؤرقه بعض الغازات، فأحمله ذهاباً وإياباً، ربما الليل بطوله، كي يهدأ، بينما فكرة واحدة تعصف برأسي: "هذا الصغير الذي أحمله الآن، ولا يتخطى وزنه الكيلوين، سوف يحملني عقب سنوات -لا يعلم عددها إلا الله- على كتفيه إلى مثواي الأخير". كانت الفكرة تعصف بقلبي، فأدعو الله له بطول العمر وحسن العمل، والقبول في الأرض والسماء، بينما أربت بروحي، لا يدي، على ظهره الصغير الذي لم يكن يتعدى كف يدي.

لا وقت للمشاعر 

في طفولتي كنت أجيد التعامل مع الأطفال، وفي عقدي الثاني، اشتهرت بين الجميع أنني الفتاة التي حين تحمل الأطفال، ينامون فوراً، قالت لي امرأة عجوز ذات مرة إن "حضني طيب"، فيما غبطتني أخرى، وقالت لي: "يا بختك ولادك هايناموا في ثانية"، لكنني صرت آخر شخص في العالم يمكن أن يهدأ معه أطفالي، أو يناموا، حتى أنني كثيراً ما كنت أردد "مبعرفش أنيمهم!".

حين أنجبت طفلي الأول، كنت أعلم أنني بصدد أمر جلل، تحضرت له كثيراً، لكنني لم أتصور لحظة أن يكون بهذا القدر من العظمة، عظمة لم أحتمل معها كل تلك المشاعر، فصرت متبلدة تماماً، أذكر الأربعين يوماً الأولى عقب ولادته، كيف مرت دون أن أدوّن في يومياتي ولو جملة واحدة، أنا التي اعتدت الكتابة يومياً، فاتتني الأربعون يوماً الأولى في حياة طفلي الأول، لم أكن قادرة على التعبير، ولا حتى الشعور، في تلك الأيام لا وقت لشيء سوى محاولة البقاء على قيد الحياة، هكذا تمر مشاعر جليلة ولحظات استثنائية دون حتى أن يدرك المرء أنها هناك، في الأربعين يوماً الأولى، كنت أحلق مع صغيري في عالم آخر، لا مكان فيه للذاكرة، أو العقل، عالم تلعب فيه الأرواح دور البطولة، لم أحتفظ منها سوى بصور عديدة، كنت أتعمد التقاطها للمرات الأولى في كل شيء يخصه، الاستحمام الأول، الابتسامة الأول، وهكذا، لكنني حين أعود إلى تلك الصور الآن أعجز عن تذكر الكثير، كأنها امرأة أخرى وكأنه طفل آخر.. ماذا يحدث!

أطفالنا

إنهم يتغيرون سريعاً

كثيراً ما كانت أمي تطيل النظر لي، أسألها عما هنالك فتخبرني: "أصلك وحشتيني". الحق أنني كنت أتعجب من قولها، كيف تفتقدني وأنا أمامها بالفعل، حتى أنني كنت أظن أحياناً أنها لم تعد تحبني.

لم أدرك معنى ما كانت تقول إلا حين صرت أمّاً لطفلين، تحديداً حين أطالع صورهما القديمة، أشعر بحنين عميق في قلبي، وأتساءل ببلاهة، أين ذهب طفلاي؟ تلك الكفوف الرقيقة النقية، الأقدام الصغيرة، والأحجام التي يمكن حملها بيد واحدة.

تتبخر الكثير من التفاصيل من ذاكرتي، فلا أذكر سوى لحظات استثنائية، كأنها ومضات قادمة من زمن موازٍ..

"تلك اللحظة.. حين كنت أنجح أخيراً في فهم اللغز الذي يدفع يونس إلى الصراخ الهستيري، حين أدرك وحدي أن شعرة صغيرة تلتف على إصبعه، أو أنه يشعر بالحر قليلاً، فأضبط درجة الحرارة، أو حين أضعه في تلك الوضعية المحببة لديه بحيث تقابل معدته عظمة كتفي، بينما يلامس رأسه خدي، فيغيب في عالم آخر يتخلص فيه أخيراً من الألم والمعاناة".

"تلك القهقهات التي كان صغيري يضحكها في قلب الليل، بينما عمره لم يتخطَّ السبعة أشهر بعد..".

"مشهد وجه صغيرتي وهي تغيب تدريجياً في عالم الأحلام، بينما حصلت على رضعة مشبعة، كانت تبتسم بطرف فمها، ابتسامة مميزة جداً تُشعرني بالرضا عن نفسي والعالم".

أين يذهبون حقاً؟

أين ذهب كل هؤلاء الرضع الأبرياء؟ وكيف صارت الأرجل التي تحاول تعلم الخطوات الأولى بحذر إلى أقدام تركض، فلا نلحق بها؟ أين يذهبون حقاً؟ يمنحني السؤال شعوراً غريباً جداً، إنني أحبهم في كل النسخ، وبكل الأشكال، ولا أتمنى لهم سوى الصحة والسعادة وطول العمر وحسن العمل.. لكنهم يباغتونني، يتبدلون كل يوم، طفل ينام، فيستيقظ بنفس الاسم والكيان، لكنه يصير شخصاً آخر.

أطفالنا

صار لديّ الصراع ذاته الذي كانت أمي تعاني منه، إنهم يكبرون، أرغب في رؤية تلك المعجزة اليومية التي تجعلهم أشخاصاً أكبر وأفضل، لكنني لفرط حبي لهما أرغب في الاحتفاظ بكل تفصيلة تتعلق بهما، لهذا كان شعوري بالأمر مضاعفاً مع ابنتي سلمى، فقد رأيت قبلها كي تتبدل الأحوال سريعاً، لذا حين كنت ألمسها أو أحضنها، في أعوامها الأولى، كنت أطيل الأمر، أحضن تلك النسخة الجميلة التي سوف تصير أجمل، أبكي أحياناً، وأتشبث بها، ربما كي تبقى لوقت أطول قبل أن تتغير.

تحفظ لنا الكاميرا الذكريات، لكن ماذا لو أن هناك اختراعاً يحفظ لنا رائحتهم في الملابس، مشاعرنا وهم في أحضاننا، والتي تختلف مع كل عمر وكل موقف وكل لحظة.. ربما ليس ثمة حل سوى أن نحتضنهم بعمق، وبكثرة، نحتضن طفلاً يمضي، وآخر يأتي مكانه، فيصير نفس الشخص الذي نحبه في كل لحظة وكل عمر.. ربما الحضن.. العميق جداً، والطويل، المحب، هو الحل!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
رحاب لؤي
كاتبة صحفية متخصصة في الفن
كاتبة صحفية، عملتُ في العديد من الصُحف والمواقع الإلكترونية، أحب الرسم والقراءة والأداء الصوتي
تحميل المزيد