منذ طفولتي وأنا أكره كل ما هو اصطناعي وبعيد عن ما هو معهود بالنسبة لي، بدءاً من الدواء الذي كان أهالينا يرغموننا على تناوله وانتهاء برفض صارم لارتداء الملابس التي يشترونها لنا من خارج محيطنا، وتكون مختلفة كلياً ولا تشبهني ولم يستهوني يوماً أي شيء مخالف للطبيعة التي جُبلنا عليها.
في مراهقتي كانت جل قريناتي يعملن على تزيين وجههن بالمكياج عداي أنا، فقد كنت أكرهه للعمى، أحس وكأنه يسلب من محياي الذي عهدته، يخطف مني حقيقتي، حتى أنني ما زلت أحمل بمخيلتي ذكرى حول هذا؛ حيث حاولت إحداهن صبغ شعري بالمنتج المتبقي لها بعدما استعملته، فرفضت ذلك، وحينما أصرت بدأت بالصراخ، وحاولت جاهدة إقناعها بوجهة نظري حول الموضوع حتى أغضبتها لتتراجع عن خطتها.
لكن في وقتنا الراهن، كيف لنا أن نحافظ على طبيعتنا نحن الذين ما زلنا لم نقتنع بالتغييرات الجذرية للشكل البشري، خصوصاً بعدما أصبحنا نعيش في زمن مفلتر، كل شيء فيه يظهر عكس حقيقته، والجميع يرغب في الظهور بصورة مغايرة لهويته، فنجد الغني الذي يسافر إلى أفضل بقاع الأرض لأجل التقاط صورة تمكنه من الحصول على أعلى نسب مشاهدة لصفحته عبر السوشيال ميديا، وإذا لم يشعر بالنشوة التي كان يتوقعها تراه يبحث عن أفقر مكان لأخذ صورة تظهره في أبشع حالاته، فقط ليصنع الإثارة بين معارفه، ويثير الجدل عبر صفحاته.
أما الإنسان الذي ينتمي للفئة المجتمعية المتوسطة، فتجده يفعل كل ما بوسعه للتجول في الأماكن الباذخة، فقط ليحصل على صورة وهمية يشاركها مع أصدقائه الوهميين، ليظهر بينهم بمظهر الأغنياء لأجل الحصول على شعور الرضا الاجتماعي، وتناول فطوره بآخر دراهمه ليلتقط صورة لنوعية المأكولات حتى لو ظل بقية الشهر مفلساً.
أما الإنسان البسيط المحدود الدخل، والقابع تحت عتبة الفقر، فهو تائه بين هذا وذاك يشاهدهم بحسرة ويعتقد أن كل ما يراه حقيقياً، مما يدفعه لندب حظه المتعثر، فيترك نفسه للسوشيال ميديا يركض وراء آخر منشوراتهم في عز اكتئابه؛ ليعرف مستجداتهم ويتخيل نفسه بمكانهم يوماً ما.
وهذا يكشف صبغة مجتمعاتنا الجديدة، المجتمعات المفلترة التي أصبح رجالها يريدون أن يكتسبوا أجساماً كالتي يمتلكها زلاتان إبراهيموفيتش، وابتسامة كالتي تزين وجه براد بيت، ويركبون أفخم سيارة، كالتي يستقلها كريستيانو رونالدو ويريدون أن يتناولوا وجبته في برج خليفة.
أما النساء، فكل واحدة منهن تتمنى لو أن يصبح جسمها كعارضات الأزياء، ووجهها كالذي تمتلكه الأميرات وملكات الجمال، وتعيش تفاصيل حياة يومية كالتي تعيشها عائلة كاردشيان، وترتدي أفخم تصاميم لإيلي صعب، وتتزين بمجوهرات باهظة الثمن، كالتي تتزين بها أحلام، حتى صارت جل الفتيات مهووسات بالفلترة والتقليد الأعمى، مما أدى إلى أن الشعور بالرضا انتقص بشكل كبير.
والغالبية صارت تحتقر التفاصيل البسيطة والأشياء الثمينة بقيمتها المعنوية.
علينا أن نعود أدراجنا لأصولنا وطبيعتنا البشرية التي جُبلنا عليها، فتسريحة شعري ليس بالضرورة أن تشبه تسريحة شاكيرا، وعيوني ليس بالضرورة أن تقارن بعيون إنجلينا جولي، وطولي ليس ضرورياً أن يصبح كمقاس جيجي حديد، وما أرتديه ليس مهماً بالمرة أن يكون متناسقاً كأناقة شيريل كول، وليس بالضرورة أبداً أن أعيش برفاهية جورجينا رودرغيز حتى يقال عني إنني شخصية تنطبق عليها شروط المجتمع المفلتر.
نحن هكذا خلقنا على طبيعتنا ومشرط الجراح التجميلي لا يمكنه أن يسحب الذكريات التي صنعت تجاعيدنا فقط من خلال شده باحترافيته العالية؛ ليظهر جلدنا في أبهى حلة حسب مقاييس الجمال التي اخترعها البعض للفنانين وعارضات الأزياء، وفجأة صارت مفروضة علينا جميعاً، لأجل هذا يجب أن نتفطن قبل فوات الأوان، فلسنا مضطرين لتناول المزيد من البروتينات والفيتامينات المصنعة وغيرها كي يرانا الآخر بالصورة التي يريدها.
لسنا مضطرين لأن نخفي ملامحنا الحقيقية بالمزيد من المكياج وحقن البوتوكس فقط لنحصل على بشرة تثير إعجاب المجتمع الجديد الذي غيّر قناعاته ومفاهيمه للأمور، لسنا مضطرين لأن نتصنّع ونتخلى على عفويتنا لإرضاء الغير حتى ننسى شكل وجوهنا التي عاشت معنا كل تفاصيل حياتنا، وشهدت على فتراتنا التي لم تكن سهلة بتاتاً، ورافقتنا في كل الدروب التي أنهكتنا حتى تجاوزناها بسلام، لكنها طبعت خدوشاً على الوجه كان من المفترض أن تزينه ونشكره عليها كلما نظرنا إليها عبر المرآة، لكن جُلنا فضّل العمل على إخفائها كي لا تذكّره بما مر به في السابق.
فتجاعيد وجهي شاهدة على عدد الضحكات التي ارتسمت عليه تعبيراً عن الفرح وعن المرات التي تجهم خلالها نتيجة حزن ما، أو لحظات الغضب التي مرت بي.
شعري المتقصف الذي لم يعد يستهويني شاهد على عدد المرات التي لامسه أحبائي، على عدد المرات التي مشطته أمي وجدتي وخالاتي، وعلى عدد المرات التي شده أخي أثناء اللعب أو المجادلة، وجلدي المتصبغ شاهد على كم مرة تعرض خلالها لأشعة الشمس على الشاطئ وفي الطرقات أثناء ركضي نحو تحقيق الأهداف.
و لن ينتقص مني شيء إن لم أرضخ لشروط هذا المجتمع المفلتر، وفي النهاية كل ما هو مفلتر سيزول مع الأيام، حينما تنتهي صلاحيته، أما البقاء الدائم فيظل لكل ما هو طبيعي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.