نلاحظ في عالم اليوم انتشار خطابات عديدة في الفضاء الاجتماعي خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات المحتوى، والسمة المشتركة الغالبة بينها جميعاً هي السطحية، إذ تصر على تقديم حلول معلبة لمشكلات مركبة وعلى قدر من التعقيد والتشابك، كما تفرض التجربة الشخصية لصاحب الخطاب كنموذج معالجة لحياة البشر في القرن الحادي والعشرين، علاوة على ما يرتبط من تلك الخطابات بدوافع نفسية مرضية ومضطربة عند أصحابها تجعلهم يستخدمون نقاط الضعف عند الجمهور حتى يدفعوهم نحو تبني رؤية مؤدلجة تستعدي جميع الأطراف، لم تكف تلك الخطابات عن البروز كنوع من الثرثرة التي تجذب الجمهور، بل قدمت نفسها كخطابات تعليمية وتربوية يدفع الناس أموالهم كي يحصلوا على خلاصة حكمتها، وكي تصلح لهم حياتهم المتداعية على نحو كارثي، والعجيب أن تلك الخطابات تستهوي الجميع حتى تلك الفئات التي من المفترض أنها حصلت على قدر عالٍ من التعليم والتثقيف، فأين يكمن الخلل الذي يجعل الناس يتبعون هؤلاء إلى الهاوية، وهم لا يشعرون أن مجموعة من السطحيين تمكنوا من إفشال حياتهم وأخذوا على ذلك أموالاً منهم ونالوا الشهرة والتقدير؟!
لا بد هنا أن نشير إلى أننا في ظل عصر طغت فيه التخصصات العلمية التطبيقية على عملية التربية والتعليم، فأصبح الاهتمام منصباً على التخصصات العلمية المرتبطة بسوق العمل لتحقيق الكسب المادي والمكانة الاجتماعية مع تجاهل أنواع المعرفة الأخرى التي يجب على الإنسان أن يعرفها ليشكل بها أسلوب حياته ويتعامل بها مع مشكلاتها، فلم يعد هناك نسق معرفي يفكر الإنسان من خلاله فيما يجب أن يفعله وما يصيبه والطرق التي يستطيع من خلالها معالجة ما يواجهه من مشكلات اجتماعية ونفسية، علاوة على تخلف مجتمعاتنا في المجالات التي تمس حياة الإنسان كالطب النفسي والعلاقات الاجتماعية والفلسفة وأنماط التفكير وغيرها، فنادراً ما تجد مؤسسات أو متخصصين متقنين في تلك الأمور، الأمر الذي يفسح الطريق أمام السطحيين لممارسة عمليات الاحتيال على الجمهور مدّعين تخصصهم في تلك الأمور، وكل ما يعرفونه عنها هو معرفة رديئة وسطحية تستعين بجهل الجمهور وأزماته النفسية كي تمر بهيبة إلى ضميره المعرفي، فتفسده ثم يفسد هو بدوره حياة صاحبه.
فبعدما كان خطاب التنمية البشرية مقتصراً على مجال العمل وعلاقاته، اقتحم كافة مجالات الحياة، مستغلاً فراغ الساحة من المنظومة المناسبة، فصار عندنا مستشارو علاقات أسرية ومدربو طاقة ورواد خبرة، بل أصبح لدينا من عنده الجرأة ليطرح تغييراً جذرياً في النظام الاجتماعي والأخلاقي دون أن يمتلك أدوات لفهم جزئية واحدة من جزئيات هذا النظام، ولأن الناس عطشى لأي حل يخرجهم من الحياة المتداعية تلك فهم يتبعون هؤلاء رغم أن من الناس الكثير ممن يدركون أن بضاعة هؤلاء رديئة!
بعض هؤلاء ينسجون من الأحلام الوردية والروايات الرومانسية والأفلام الرخيصة بيوتاً لمتابعيهم، إذ يؤسسون وعيهم على أشياء لا ولن تمت للواقع بصلة، حتى يدفعوهم نحو تصورات طوباوية محكومة بالفشل.
بعضهم أيضاً يتمركز حول الإنسان الفرد، ويغذي النرجسية في ضمائر متابعيه، فيوهمه أنه يستحق كل ما يريد، وعلى الجميع أن يعمل من أجل أن يحصل على ما يرغب، وإلا صاروا أشراراً يجب البعد عنهم واعتزالهم، ولا نحتاج لكثير تفكير حتى نتوقع النتيجة التي سنحصل عليها في تلك الحالة!
بعض تلك الخطابات تغذي احتقار الذات، وتنمي خضوعها لتحصل على ما تريد، وتستقيم لها الأمور، غير مدركة أن مكاسب الخضوع مرحلية وليست دائمة، وأن الثمن المدفوع فيها باهظ الكلفة، كرامة الإنسان وشخصيته.
تلك الخطابات التي يتعرض لها الإنسان بشكل يومي تساهم في تغيير رؤيته للحياة والناس والمجتمع، وتغيير نفسيته، وطريقة تعامله مع الآخرين، وطبيعة إدراكه للمشكلات، هذا كله يصب في دفع الإنسان إلى اتخاذ خيارات وانتهاج نهج لن يؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى والفشل.
عشر آليات مقترحة لمواجهة الخطابات السطحية
لمواجهة التأثر بتلك الخطابات نقترح هنا عشر آليات:
- دراسة التفكير المنطقي لاكتشاف المغالطات المنطقية التي يعتمد عليها السطحيون في تمرير ترهاتهم.
- تقييم الأزمات النفسية ونقاط الضعف ومعالجة ما يستلزم المعالجة حتى لو تتطلب الأمر زيارة مختص نفسي معتمد، لأن أغلب تلك الخطابات لا تجد صدى إلا في وجود أزمات نفسية ونقاط ضعف وحساسية من أمور ما.
- الاستعداد المادي والنفسي والفكري لأي أمر قبل الدخول عليه، والاستعانة بالأدوات المناسبة للتفاعل معه.
- إلزام النفس بالبعد عن الحلول المعلبة والمريحة، وإلزامها بالتفكير في مدى مناسبة أي طرح لواقعها.
- البعد عن الخطابات التي تثير المشاعر بطريقة عشوائية وبلا ضابط، وقراءة الأدب الجيد يفيد في ذلك.
- القراءة في الكتب التي ينصح بها أهل الخبرة والتمرس ولو كانت صعبة، فمع الوقت تستقيم المعرفة لمن يجتهد.
- تعلم ملكة النقد، والتفكير في أي خطاب موجه للذات.
- استشارة من هو أكثر خبرة ودراية عن مدى مناسبة الخطاب من عدمها.
- في طلب علم ما، يجب القراءة عن طبيعة العلم وفلسفته للتفريق بين ما هو علم وما هو علم مزيف.
- دراسة آلية تشكل الأسطورة وسلطتها على الحياة لحماية الحياة من الأساطير التي تفسدها، فحياتنا الحديثة مليئة بالأساطير التي يجب أن تفكك.
في النهاية نؤكد أن عملية اكتساب معرفة حقيقية ورصينة تمكن الإنسان من التعامل بحكمة مع أمور حياته وحل مشكلاته عملية غاية في الصعوبة لكنها ضرورية، ولن يفي بالغرض اللجوء إلى خطابات ساذجة من سطحيين يجمعون المال من الكلام، بل يجب على الإنسان أن يتعلم بمنهجية، وأن يفكر في طبيعة حياته وواقعه وأن يجتهد لمعرفة المضامين التي تتنزل من خلالها القيم في واقع حياته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.