لم يكن أوليغر بريساس رينوم، من النوعية التي يمكن أن تنجذب إليها إذا شاهدته يلعب بقميص برشلونة؛ ربما لأنه لم يكن يُحب كرة القدم بهذا القدر.
أوليغير بريساس، المواطن الكتالوني، الذي نشأ على حبه لكاتالونيا وانتقاده الشديد لإسبانيا، أراد أن يجد طريقاً للشهرة ليُظهر للعالم كله ما يُعانيه إقليم كتالونيا منذ القِدم على يد الحكومة في مدريد!
كان أوليغير شاهداً على أول مباراة لأسطورة برشلونة فيما بعد، الصغير ليونيل ميسي، وكان زميلاً لتشافي هيرنانديز، أسطورة خط الوسط في الفريق ومدربه حالياً، ومن بلدة سيرجيو بوسكيتس نفسها، اللاعب الذي رحل هذا الصيف عن صفوف برشلونة بعد سنوات كقائد للفريق.
لكن أوليغير لم ينتهج نهجهم؛ هذا لأنه كان يُقحم السياسة في كل شيء يتعلق بكرة القدم، وكان يكتب المقالات الخاصة في الجرائد المُعارضة للحكومة، ويتظاهر ضدها في كثير من الأوقات، حتى أصبح اسمه يتردد بين قائمة "المُتمردين على الحكومة".
وعلى الرغم من كل هذه الفوضى، إلا أنه قد حقق لقب الليغا مرتين، ولقب دوري أبطال أوروبا مرة واحدة، ورحل عن الفريق في الثورة التي أقامها المدرب الإسباني بيب جوارديولا في عام 2008.
أوليغير، ربما أكثر ما اشتهر به في عالم كرة القدم، هو هدف راؤول تامودو التاريخي في مرمى برشلونة، في ليغا موسم 2006-2007، تلك الليغا التي تسبب هذا الهدف في ضياعها من الكامب نو صوب البيرنابيو، حيث كان أوليغير هو من كسر مصيدة التسلل في هدف تامودو في الدقائق الأخيرة من المباراة، ولم يكتفِ أوليغير بهذا، بل في الموسم نفسه تعرّض للطرد في مباراة الليغا الشهيرة، والتي عُرف فيها اسم "ليونيل ميسي" لأول مرة عبر تسجيله هاتريك في شباك إيكر كاسياس، وكان أوليغير قد تعرض للطرد قبل انتهاء الشوط الأول؛ ليترك برشلونة متأخراً في النتيجة ومنقوصاً من حيث العدد!
أما في نهائي دوري الأبطال عام 2006، أمام أرسنال الإنجليزي، كان أوليغير هو الكفة التي حددت مسار اللقب ليلتها، حيث قدم واحدة من أسوأ المباريات في تاريخ أي ظهير، والتي كلفت المدرب الهولندي فرانك ريكارد إخراجه وإدخال أندريس إنييستا بدلاً منه؛ لتنقلب المباراة بهذا التبديل من هزيمة برشلونة بهدف دون رد، إلى انتصاره بهدفين وحصده للقب.
كان أوليغير يتعمد دائماً أن يستخدم كل اللحظات المهمة لفريق برشلونة، ليُظهر كنيته الكتالونية، فكان يلفُّ نفسه بعلم كتالونيا أثناء التتويجات الخاصة بالفريق لتتحدث الصحافة عنه فيما بعد.
من حيث الحياة؛ كان أوليغير إنساناً عادياً، يأكل مما يأكل منه عامة الناس، ويشرب مما يشربون منه، ولم يرَ فضلاً لنفسه أن يتغطرس عليهم بكونهم لاعباً في صفوف برشلونة.
كان يعيش في شقة مستأجرة، وكان يركب سيارة تُشبه الشواحن الخاصة بنقل البضائع؛ ظناً منه بأن الإنسان لا يُقيم على أساس ما يركبه، أو ما يرتديه، أو ما يكونه، بقدر ما يهم أكثر: من هو؟
القضية أهم من تمثيل المنتخب
حينما بحث لويس أراغونيس، مدرب منتخب إسبانيا في وقت من الأوقات، عن لاعب بديل يليق بقوام المنتخب الإسباني، لم يجد أفضل من أوليغير بريساس رينوم، اللاعب الذي يُمكنه أن يُشارك إذا تأزم الأمر، لكنك لا تعتمد عليه بصورة أساسية.
لكن أراغونيس لم يُدرك أن أوليغير سيصل إلى مُعسكر المنتخب الإسباني، ويطلب مقابلته لكي يُخبره: "سأتحدث معك بصراحة شديدة…أنا لا أهتم، لا أهتم بمنتخبكم الإسباني، ولا أتشرف بارتداء قميصه، يمكنك أن تستبدلني بأي لاعب آخر، فأنا كتالوني ولن أشارك معكم". ثم غادر أوليغير دون رجعة.
ليلتها، فهم الجهاز الفني لمنتخب إسبانيا، أنهم أمام مُعضلة حقيقية؛ رجل يظن نفسه أعلى من القانون، وفي الوقت نفسه لا يرضخ له، لا يفرح بأهم لحظة في مسيرة أي لاعب، بل ويتنازل عنها تزكيةً لمن يُريدها دون تحسّر عليها!
بعدها خرج أوليغير من معسكر المنتخب، ليكتب مقالاً في إحدى الجرائد المعارضة، يتحدث فيه عن كراهيته الشديدة لإسبانيا، وأن المنتخب الكتالوني بالنسبة له هو الشرف الذي يسعى إليه.
أوضح أوليغير في مقاله، أن الجماهير الحالية لهذه اللعبة هي جماهير "مَسُوقة" لا تختار أي شيء، تدفع مقابل أن تُشاهد فريقها، وأعضاء النادي لا يتعاملون مع الجماهير إلا على أنهم مجرد أدوات، والأمر أصبح استثمارياً من كافة النواحي.
كما نوّه على أنه لا يهتم؛ لا يهتم بإسبانيا ولا بمنتخبها، لا يعرف ما إذا كانت قد تأهلت في الأساس لكأس العالم؟ هل ستلعب في بطولة اليورو؟ هل تُبلي بلاءً حسناً في التصفيات؟ لا يهتم، ولن يشاهدهم، ولن يكترث بهم؛ سواء حققوا لقب كأس العالم، أم غادروا المسابقة من دور المجموعات.
استخدم يديه بدل قدميه لتسجيل أهدافه
في الجهة المقابلة، كانت الصحافة الإسبانية الموالية للحكومة، تستشعر خطر هذا الإنسان الذي لم يفلح في الرد بقدميه، فاستخدم يديه كناية عنها، وأصبح أوليغير يُظهر ميوله في الملعب وخارجه.
وكتبت الصحافة الإسبانية عن أوليغير، وحرّضت عليه كل الجماهير الإسبانية؛ فبات من السهل إدراك أن كل ملعب يدخله أوليغير بعد هذه الواقعة سيتحول إلى سخط شديد عليه.
في المستايا، ملعب نادي فالنسيا، ظلت جماهير فالنسيا تُردد عبارات مسيئة نحوه، وكانت الجماهير تعتبر مباراة برشلونة مباراة بثلاث نقاط أمام برشلونة، وبانتصار سياسي أمام أوليغير تحديداً.
ما عهده الناس عنه أنه لا يصمت، فخرج بعد اللقاء ليتحدث من جديد، ويُطالب هؤلاء القوم بألا يستمعوا لكل ما يُقال دون البحث عنه، عليهم بالقراءة، وعليهم بالبحث عما كتب؛ حينها سيتضح لهم أنه لم يكتب حرفاً مما قالته الصحافة، ولم يتحدث عنه، لا من قريب ولا من بعيد، وهذه هي ضريبة أن تكون شخصاً مَسُوقاً من جهة أكبر!
بعد رحيله عن برشلونة، ذهب نحو تجربة قصيرة لثلاث سنوات في صفوف أياكس أمستردام، وفي الوقت الذي كان فيه ميسي وتشافي وإنييستا وسيرجيو بوسكيتس يستحوذون على إسبانيا وما هو خارجها؛ كان أوليغير يُعلن بشكل نهائي اعتزاله لعبة كرة القدم للأبد، لأنه لم يجد أية عروض لضمه، وفهم تلقائياً ألا أحد يريده.
ونتفق أم نختلف مع أفكاره السياسية، إلا أنه يذكر له دعمه للقضية الفلسطينية كذلك، إذ رأى أن الكيان الصهيوني يغتصب هذه الأرض، ورفض بشكل قاطع أن يوافق على أي عقد مع أية شركة تابعة لهذا الكيان. وشارك بدعم حملة مقاطعة شركة بوما.
في النهاية أدرك أوليغير حقيقة مهمة؛ أدرك أن الناس في العادة لا يقرؤون، وأن ما يُقال عادةً لا يكون صحيحاً إذا بحثت عنه، وأن ما قاله وصرّح به طوال مسيرته كان سبباً كافياً لكي تتخلى عنه الأندية، وتفسخ الشركات الراعية له عقود الرعاية من طرفها بسبب مواقفه السياسية، وأنه الآن يعيش حياة هادئة تماماً، لا يذكره أحد ولا يهتم بشأنه أحد، ودخل كرة القدم غريباً وخرج منها غريباً!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.