يمتلئ التاريخ الإنساني بقصص صراع الإخوة الأشقاء حول المال والسلطة والمكانة، منذ قابيل وهابيل وليس انتهاءً بإخوة يوسف عليه السلام. والتاريخ الإسلامي هو الآخر ليس استثناءً في هذا السياق، ولعلّ أشهر الأمثلة صراع الأمين والمأمون على خلافة هارون الرشيد بعد رحيله في العهد العبّاسي؛ أما العثمانيّون فقد كان قتلُ الإخوة أقرب إلى القانون الصارم -حتّى الرضّع منهم- باعتباره حلاً -ولو كان دموياً- لحسم أي صراع مستقبلي على السلطة، أو منازعة السلطان العثماني على كرسيه؛ ما قد يهدّد كيان الدولة نفسها ويدخلها في احتراب أهلي بين أبناء الأسرة الحاكمة.
لكن ظاهرة التنافس والتشاكس والغيرة بين الإخوة ليست حكراً على الأزمنة القديمة، أو على الأنظمة الملكية فقط باعتبار أن السلطة فيها تنتقل بالوراثة، وبالتالي فإن الصراع فيها أكثر رجوحاً، فلا يكاد أيّ بيت يخلو من هذا الصراع تقريباً باعتباره طبيعة بشريّة، يبدأ منذ الطفولة بتنافس الأبناء حول كسب اهتمام الآباء والفوز بودّهم واهتمامهم وبالمكانة المميّزة لديهم والشعور بالتقدير، لكن هل يمكن أن تتضخم هذه النزاعات من مجرّد الخلاف حول "اللعبة المفضّلة" وتصل إلى أروقة السلطة والسياسة والحُكم، وتؤثّر على مصائر ملايين الناس؟
سنة 1984 حبست سوريا -والعالم العربي من ورائها- الأنفاس وهي تراقب صراع الأخوين رفعت وحافظ الأسد حول عرش السلطة. لم يكن رفعت الأسد قد مسح يديه بعد من دماء "مجزرة حماة 1982″، التي قاد خلالها "سرايا الدفاع"، أو الكتائب العسكرية التابعة له لدحر الإخوان المسلمين في مدينة حماة، والتي راح ضحيّتها عشرات الآلاف من القتلى لتُفتح شهيّته على ما هو أكبر.
ولعلّ نجاحه في كسر الإسلاميين قد فتح شهيّته للحكم وأخْذِ دور أوسع في السلطة، فاستغل إصابة أخيه الأكبر حافظ الأسد بوعكة صحيّة ليقتحم العاصمة السورية دمشق بالدبابات، في محاولة انقلابية صريحة هدفها الاستيلاء على الحكم وإزاحة أخيه، إلاّ أن عدم انحياز باقي أسلحة الجيش لهذه المحاولة أدّى إلى فشلها. وكادت البلاد تغرق في مجزرة جديدة، ولولا الوصول إلى "حل وسط" يخرج بموجبه رفعت من البلاد مقابل مبلغ مالي ضخم قام بدفعه آنذاك الرئيس الليبي معمر القذافي. وهكذا ارتهن مصير بلاد بأكملها ومآلات ملايين الناس في صراع بين الإخوة، تحرّكه العُقد النفسية من غيرة وغرور وتنافس وشهوة السلطة والتفوّق على الأخ الأكبر.
الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات هو الآخر لم ينجُ من مصائب أخيه، فرغم أن السمة التي طبعت مسار عرفات هي نجاته المستمرة بأعجوبة من المصائب التي كانت تقع عليه من محاولات اغتيال متكرّرة، إحداها سنة 1982 في تونس، راح ضحيتها العشرات من منظمة التحرير، ونجا منها عرفات بمعجزة، أو أزمة أيلول الأسود في الأردن، أو الطرد من لبنان، وغيرها.
إلاّ أن مصدر الصداع الذي كان يزعج عرفات خلال سنوات فتح الأولى لم يكن الاحتلال الاسرائيلي ولا جورج حبش، بل كان أخاه الشقيق فتحي عرفات ومحاولاته رفقة محمود مسودة لإزاحة أخيه من رأس الحركة والانقلاب عليه من الداخل، كما يذكر يزيد صايغ في كتابه "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة"، ما كان يسبّب له الارتباك والإحراج باعتبار أنّه لم يستطع حتى أن يستميل أخاه إلى صفّه، فكيف بالغرباء!!
الرئيس المصري حسني مبارك هو الآخر حدث له موقف مشابه مع أخيه أحمد سامي مبارك، الذي ترشّح للانتخابات البرلمانية على قائمة حزب الوفد سنة 1984، رغم معارضة أخيه الرئيس، كما أنّه خرج فيما بعد بتصريحات إعلامية يهاجم فيها أخاه ويتّهمه بعدم الأهلية لحكم البلاد؛ وقد انتهت هذه الأزمة بعد أن ضغط النظام السياسي على أحمد سامي لإيقاف نشاطه السياسي، ليضطرّ إلى مغادرة البلاد إلى ألمانيا حيث توفي هناك.
بوتفليقة هو الآخر لم يكن محظوظاً بأخيه "السعيد"، أستاذ علوم الحاسوب في جامعة باب الزوار، والنقابي الشرس الذي أصبح في غفلة من الزمن الرئيس الفعلي للجزائر، و"زعيم عصابة القوى غير الدستورية" كما لُقب فيما بعد. جلب عبد العزيز بوتفليقة أخاه من مقاعد الدراسة، وعيّنه مستشاراً له في الرئاسة؛ ومع إصابة عبد العزيز بالجلطة الدماغية سنة 2013، وتدهور صحّته لدرجة العجز عن الكلام أو الوقوف، وجد سعيد بوتفليقة نفسه فجأة يتحوّل إلى لسان الرئيس الذي ينقل به تعليماته، وأرجله التي يتحرك بها، وعقله الذي يفكّر به، وأصبح بشكل أو بآخر هو الرئيس الفعلي، خصوصاً ما بين 2014 إلى 2019.
لا شك أن سعيد لم يكن بارّاً بأخيه حين أجبره على الترشح للعهدة الرابعة، ودفعه للخروج من أضيق الأبواب، وتحوّل في آخر سنوات حكمه إلى أضحوكة حول العالم كلّه تُنسج حوله النكت والمقاطع الساخرة والتعليقات المستهزئة، إلى أن أجبره الحراك الشعبي في 2019 على التوقيع على رسالة استقالة لا يستطيع حتى قراءة محتواها، مرتدياً "الجلاّبة" على عجل، في مشهد ختامي مُخزٍ ومحزن في آن واحد، ويجد الأخ العاق نفسه خلف قضبان السجن بعد مغامرة سلطوية جامحة، رسم حراك 2019 نهايتها.
في السياق ذاته، تلقى أحمد أويحيى، أو رجل المهمات القذرة كما يوصف، وأطول رئيس وزراء تعميراً في منصبه منذ استقلال الجزائر، طعنةً من أخيه الشقيق خلال أضعف لحظاته في كرسي السلطة، إذ خرج أخوه المحامي العيفة أويحيى بعد أسابيع قليلة من انطلاق الحراك الشعبي المطالب برحيل السلطة، معلناً انحيازه لإرادة الشارع، ومطالباً أخاه بالرحيل في وسائل الإعلام.
لكن هذا الشقيق حفظ بعضاً من الودّ لشقيقه، وفي الوقت الذي دخل فيه أحمد أويحيى السجن وأُلصقت به جميع الذنوب والخطايا والاتهامات حقاً وباطلاً، وخسر جميع أنصاره وحلفائه ومؤيديه، لم يبق في صفّه سوى شقيقه المحامي العيفة مدافعاً عنه أمام المحكمة، حرفياً إلى آخر رمق، إذ توفي مباشرة بعد شعوره بألم في صدره وهو يدافع عن أخيه داخل قاعة المحكمة، ويُدفن تحت التراب في جنازة حضرها أحمد مكبّل اليدين ومحاصراً بجيش من الشرطة وبجيش أكبر من الناس الذين حضروا الجنازة فضولاً وتشفّياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.