أين نحن كدول عربية من تطور نظريات الحكم السياسي؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/07/14 الساعة 13:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/07/14 الساعة 13:10 بتوقيت غرينتش

كثيراً ما نسمع في الجلسات الخاصة أو العامة من يردد أن حالنا لن يستقيم إلا إذا حُكمنا بالحديد والنار، وكثيراً ما يستشهد هؤلاء المغرَّر بهم بفترة أشد الحكام قمعاً كمثال ناجح للحكم، ومقياسهم في ذلك سيطرته التامة وقمعه لكل مخالف أو خارج عن الصف، وحدث أن راجعت بعضهم عند سماعي تصريحاتهم التي يفتخرون بها، وكثيراً ما أركز نقاشي بسؤالي متى حُكمنا بغير ذلك حتى تدعوا للعودة إليه؟!

انظروا إلى شعوبنا العربية من الخليج إلى المحيط تجدها تعيش تحت وطأة أنظمة استبدادية شمولية شرعيتها الوحيدة هي القوة وقدرتها على القمع وقهر الناس، فإذا كان من الغريب أن يدعو الضحية لجلده وتشديد وثاقه أكثر؟!، كمن يستمتع بالقهر والهوان الذي يعيشه، فالأغرب أن نعيش نفس الوضع في مختلف بلداننا على اختلاف شكل الأنظمة التي تحكمنا وتباين تأثرنا بالعالم الآخر قرباً وبعداً.

هذه التوطئة تقودنا إلى الحديث عن طبيعة الحكم أو النظرية السياسية السائدة عندنا والتي تجعل المظلوم يدعو (وهو فرح فخور) جلاده لقمعه والاستمرار على ذلك؟

1- دستور المدينة

 بالرغم من أننا أمة سباقة في دسترة عقدها الاجتماعي وطبيعة وحدود العلاقة بين الشعب وحكامه بفضل وثيقة المدينة التي وضعها الرسول، صلى الله عليه وسلم، لتنظيم دولته الناشئة وحدد من خلالها مفهوم الأمة، حق المواطنة، الحقوق والواجبات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم، إقليم الدولة، الحريات وحقوق الإنسان كحرية الاعتقاد، العبادة والحرية الاقتصادية، وغيرها من المفاهيم والمصطلحات السياسية والدستورية، فإنه بجهلنا المركب نعتبرها حديثة وندين بالفضل في معرفتها للغرب وما جادت به عبقرية فلاسفته ومفكريه، والأدهى أننا ابتعدنا عنها تماماً وعشنا نقيضها منذ معركة "صفين "إلى يومنا، فالعقد الاجتماعي الذي نتحاكم إليه ما زال بدائياً يقوم على القوة ونظرية الحاكم المتغلب، والأسوأ عَجِزنا على ترقيته وعن مسايرة التطور الذي عرفته  نظرية الحكم عند باقي الأمم.

2- تطور نظرية الحكم عند غيرنا

عندما وُضعت وثيقة المدينة الرائدة كان غيرنا يعيش ماعَرَّفه بعضهم "بحالة الطبيعة" والتي ملخصها أن لا قيم ضابطة والاحتكام فقط لغرائز الإنسان الحيوانية القائمة على السرقة، السطو والقتل، "فالكل يقتل الكل" وحتى لا نبتعد كثيراً عن موضوعنا نعود بالتاريخ إلى القرن الـ17ميلادي الذي اشتهرت فيها أوروبا بالفوضى وكثرة الحروب، واعتبر القرن الأكثر دموية في تاريخها الحديث (الحرب الأهلية في إنجلترا، حرب 30 سنة) حيث قدرت ضحايا حروبه بعشرات الملايين ولا أحد يعيش آمناً على نفسه أو ماله.

في هذه الظروف ظهر الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588 – 1679) واشتهر بطرحه لعقد اجتماعي هو الأول من نوعه في الغرب كله يضبط وينظم المجتمع، شرحه في كتابه الشهير( Leviathan)، والعنوان هو اسم لوحش بحري أسطوري (له ذكر في العهد القديم ) لا يقهر، اختاره رمزاً لفكرته التي يقترح من خلالها حلاً جذرياً لوضع الفوضى والقتل السائدين حينها، أهم بنوده:

1-العقد يكون ابتداء بين الناس فيما بينهم والحاكم "السيد" ليس طرفاً فيه.

2-يتنازل الناس بموجبه عن حقوقهم وحرياتهم للحاكم "السيد" مقابل فقط الحق في الحياة والأمن.
3-الحاكم "السيد" يتمتع بصلاحيات مطلقة وهو فوق كل السلطات.
4-لا يشارك السيد سلطاته أي كان؛ فلا برلمان ولا قضاء؛ حتى لا تُنْتقَص صلاحياته ويتمكن من القضاء على الفوضى وضمان الأمن.
5-ولايُلغى العقد إلا في حالة واحدة وهي فشل السيد في توفير الأمن والحق في الحياة.

ب-بعده مباشرة جاء فلاسفة ومفكرون آخرون اختلفوا معه واتهموه بمناصرة الملكية والتنظير لحكم الاستبداد، بالرغم من اعترافهم الضمني بفكرة العقد الاجتماعي وانطلاقهم على أساسه في طرح بدائل أخرى، أشهرهم الفيلسوف جون لوك (1632- 1704) الذي عاصر هوبز، والذي طور فكرة العقد الاجتماعي وأدخل عليه تعديلات مهمة بحيث اشترط أن يكون العقد: 

1- بين الحاكم والناس وليس بين الناس فيما بينهم فقط كما اقترح هوبز.
2- الحقوق والواجبات متبادلة بين الحاكم والمحكوم.
3- للحاكم حق الطاعة مقابل حفظه للحقوق والحريات العامة، الحق في الحياة، حق الملكية وغيرها.
4- في حالة التعدي على أي حق من حقوق الناس يلغى العقد ويسقط الحاكم.
5- الحكومة تعبر عن رغبة الشعب وإرادته (تمثيلية برلمانية) لكن اشترط أن يمثله الأغنياء أصحاب الملكيات فقط، ففي تقديره الفقير لا يمكنه أن ينوب عن الناس. 

واستمرت التحسينات والتعديلات منذ ذلك الحين إلى أن وصلوا إلى الشكل الحالي للديمقراطية والذي يعتبره الكثير أرقى نماذج الحكم، نظم المجتمعات وضبط علاقة الحاكم بالمحكوم وحدودهما، كما أخرج الناس من الفوضى وما اصطلح عليه بـ"حالة الطبيعة" مع حفظه وترقيته لحرية الناس وحقوقهم المدنية والسياسية.

3- في أي مرحلة نحن الآن؟


إذا كان طرح هوبز المناصر للاستبداد والداعي للتنازل عن الحريات يمكن تفهمه وتفسيره بكونه ابن عصره وما توصل إليه كان تحت تأثير الفوضى وانتشار القتل حينها، وحتى أفكاره مع الوقت قُبرت وتجاوزها الزمن، فبأي منطق يمكن تفسير وضعنا القائم في غالبه على "نظرية هوبز" بالحرص والإصرار على إقامة حكم بالغ التسلط والشمولية مقابل حق الشعب في الحياة والأمن فقط (كثيراً ما منَّ علينا حكامنا بأن تركونا نعيش)، فبمسح سريع لوضعنا من شرقنا إلى غربنا نلاحظ أنه:

١- يمكن تقسيم دولنا إلى قسمين؛ دول يظهر أنها مستقرة بابتعادها عن الفوضى ويتمتع رعاياها ببعض الأمن (مثل دول الخليج وبعض دول المغرب العربي)، وأخرى غير مستقرة تعيش الفوضى واللاأمن (مثل اليمن، ليبيا، سوريا، العراق، ولبنان..).

٢- بالرغم من اختلاف نظم الحكم وظروف وحتى إمكانيات وموارد الدول المسماة مستقرة، فالجامع بينها هو وجود دولة قوية بمؤسساتها الأمنية مسيطرة بصلاحياتها الواسعة، يمكن أن نسميها على رواية هوبز "بالدولة الوحش" (المصطلح هو تعبير عن القوة التي لا تقهر وليس من باب الذم) تضمن الأمن والأمان للناس وممتلكاتهم.

٣- بينما غير المستقرة يظهر من أول وهلة أن فشلها ناتج عن افتقادها لعامل الاستقرار الأول والأخير المسمى "الدولة الوحش ، فمثلاً لبنان، اليمن، ليبيا وغيرها تعاني من الاحتراب والفوضى بسبب انتشار السلاح وتعدد مراكز الحكم، فلو توفرت لهم "الدولة الوحش" لتمكنت من نزع سلاح الفرقاء وفرض وضع اللاحرب على الجميع.

٤- ادعاء ضرورة "الدولة الوحش " لا يستقيم  عندما نقارن أنفسنا بالشعوب المستقرة حقاً والتي تنعم بالتطور والازدهار أو عندما نحاول تفسير فشلنا وضعفنا المزمن..

فنحن بذلك وحسب نظرية هوبز نعيش في القرن الـ17 ميلادي، أي يتفق كل من الحاكم السيد والنخبة الخادمة والجزء من الشعب القابل للاستعباد أن الحل الوحيد هو التنظير والاقتناع بضرورة أن تحكمنا الدولة الوحش.!

4- نخبتنا والدولة الوحش 

مما لاحظناه من تطور نظرية الحكم في الغرب من القرن الـ17 إلى اليوم هو الدور الرائد والحاسم الذي لعبه مفكرو وفلاسفة الغرب ولمسنا دورهم الكبير في تأطير شعوبهم وقيادتهم نحن التطور والرقي.. فأين نخبتنا في المقابل؟ وما سبب عجزها عن تأطيرنا وترقيتنا بدورنا؟!

فشلنا أساساً يبدأ مع انقسام نخبتنا إلى قسمين

1- نخبة مستلبة متعالية عن شعبها، غريبة عن المكان، تعيش في أوطانها في أحسن الأحوال بأجسامها لكن أفكارها، مشاريعها، آمالها وأمانيها هناك في الغرب.. متنفذة حكمت ما بعد الاستعمار العسكري المباشر إلى اليوم، فشلها عام، بحيث عجزت حتى عن ضمان خبز حاف لشعوبها، فضلاً عن تطوير نظرية الحكم وترقيته، فهي أصلاً لا ترى في هذه الشعوب التي تحتقرها الأهلية لاختيار حتى رئيس بلدية صلاحيته الوحيدة تسيير شاحنات القمامة.

2- نخبة غريبة في الزمان، تعيش مع شعبها وتبدي نيتها الطيبة وتبذل وتضحي لخدمته، لكنها تتبنى وسائل وأساليب بالية استعملها أسلافهم بشروطها ونجحت في زمانها نجاحاً باهراً.

3-كلتا النخبتين مع الفارق في النيات والتضحية ساهمت بطريقة أو بأخرى في تعطيل تطور نظرية الحكم، فالمتغربة مع سبق الإصرار والترصد تعمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه؛ لأن في تقديرها تحرر الشعوب يعني ضياع مصالحها التي تنعم بها بفضل دعمها للاستبداد وقهر الناس، ولهذا تجدها تعتبر الانقلابات العسكرية مثلاً عملاً مشروعاً، وتدعو حتى العسكر للانقلاب إن لم تكن نتائج الاستحقاقات الانتخابية في صالحها، وهي تعلم أنها لن تكون كذلك أبداً.

أما الثانية فغربتها في الزمان تجعلها لا تدرك واقعها ولا تستفيد من وسائل وأساليب عصرها، وتعيش تحت وطأة التاريخ وفتنة القرن الأول، وتكتفي بالتفسير المؤامراتي للأحداث وبالترويج لقواعد حكم ضالة مضلة، كالتسليم للحاكم المتغلب والرضا بظلمه والادعاء أنها من الدين.

وأخيراً نقول إن الحل يكمن في نخبة أعتقد أنها موجودة لكنها غافلة عن دورها، تمثل الفريق الثالث الذي يعيش واقعه ويفقه زمانه، يعي أمراض وعلل أمته،  يفرق جيداً بين عدوه وصديقه، يمتلك حساً استراتيجياً عالياً يسمح له بتقديم الأهم ثم المهم، كما يسمح له بترتيب خوض المعارك بحسب أهميتها وضرورتها.

نخبة مثقفة تحترم قيم شعبها وتمتلك ناصية العلوم الحديثة، تُنظّر بالعودة إلى مصادر التشريع وليس من أحداث التاريخ وسقطات الرجال، تقرأ التاريخ لاستنباط العبر ونقاط القوة والضعف وليس للتشريع أو للعيش تحت ظلاله.. فمتى ينهض هؤلاء؟!

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

لكحل رابح
مهندس جزائري في مجال الإلكتروتقني، ومدون مهتم بالشأن السياسي
مهندس جزائري في مجال الإلكتروتقني، ومدون مهتم بالشأن السياسي
تحميل المزيد