ميلان كونديرا و”أساتذة اليأس”.. كيف تسللت العدمية في الأدب الأوروبي والعالمي؟

تم النشر: 2023/07/14 الساعة 08:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/07/14 الساعة 08:44 بتوقيت غرينتش
الكاتب والأديب العالمي ميلان كونديرا - Wikimedia Commons

"معرفة الإنسان لا تكفي لاحتقاره" بنجامين كونستان

قبل سبعة أعوام كنت أسير في شارع "طه الحكيم" في طنطا، وهو شارع مليء بمحلات وأكشاك الكتب القديمة. وفي أحد الأيام وجدت رواية "الخلود" لميلان كونديرا ففاوضت البائع على سعرها فأصر على أن يكون مرتفعاً؛ لأنها مطبوعة خارج مصر. مضيت بالرواية وكانت بداية تعرفي على ميلان كونديرا. قرأت الرواية وشعرت بشعور مختلف عما قرأته من روايات قبل ذلك، كان بناء الرواية مختلفاً وشجعني ذلك على اقتناء روايته "البطء" التي يحكي فيها قصتيْ حب؛ إحداهما في القرن الثامن عشر الذي شهد أجواء التحرر والانفتاح، وهي بطيئة وذات طعم، أما الأخرى فتدور فى عصرنا، وهي سريعة وباعثة على السخرية، وكانت الرواية ترجمة طلعت الشايب رحمه الله، وإصدار دار شرقيات التي أغلقت مؤخراً. وعلى مدى عام أتيت على بقية ما وقعت عليه من كتب كونديرا مثل "الضحك والنسيان".

ثم قرأت "ثلاثية فن الرواية: فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار"، وكنت أهرب من الكتب الجامعية لقراءة تحليلاته العميقة فأنهيت الكتاب في أربعة أيام. كنت أستمتع بحديثه عن جوستاف فلوبير وفرانس كافكا وروبرت موزيل. مفتاح هذا الكتاب ما ذكره كونديرا في مقدمته: "عالم النظريات ليس عالمي، وهذه التأملات تأملات حرفيّ. يتضمن مبدع كل رواية رؤية مضمرة لتاريخ الرواية، فكرة عما هي الرواية، وهذه الفكرة عن ماهية الرواية هي التي تجعلني أتكلم"، وكونديرا يستشهد بعبارة هيرمان بروخ: "ما لا يمكن سوى للرواية وحدها أن تكتشفه".

بقيت روايته الأشهر "كائن لا تحتمل خفته"، لم أكن قد قرأتها بعد. وسافرت من طه الحكيم وبدأت أقرأها في الغربة فشعرت بثقل جاثم على الصدر، فقد أحسست أن هذه الشحنات العدمية في كتابات كونديرا مزعجة، كنت غاضباً من عجرفة أسلوبه ومن سلوكه الأبيض المتقشف الساخر، لم  أعرف صياغة رد تشفي غليلي منه إلى أن أتت نانسي هيوستن وقرأت لها "أساتذة اليأس: النزعة العدمية في الأدب الأوروبي" وساعدتني على إيجاد مكان اللدغة.

كتاب "أساتذة اليأس: النزعة العدمية في الأدب الأوروبي" – وسائل التواصل الاجتماعي

محاكمة العدمية

لجورج أورويل تعريف للكتب الجيدة بأنها تلك التي لم تخبرنا بشيء جديد بقدر ما عبرت عن أفكار كنا نود التعبير عنها وساعدتنا على قولها.

تستعرض نانسي هيوستن مسرحية للكاتب النمساوي "توماس بيرنهارد"، حيث يكون البطل فيها فظاً وساخطاً ومتذمراً وعدمياً وغير لطيف البتة، ويسخر من شقيقاته، وتنتهي المسرحية. وتعود الكاتبة إلى المنزل تتأمل في عالم ما بعد المسرحية، حيث سيعود كل واحد من المتفرجين إلى بيته وإلى عالم يحسب فيه للصلات حساباً، عالم فيه اللباقة تعبر عن احترام الآخر، عالم لو كان فيه بطل المسرحية الفظ لطرد من البيت بكل خشونة.

وهنا تتساءل نانسي هيوستن لماذا أصبنا بفصام الشخصية، ففي حياتنا اليومية يحرص كل منا على الآخر، ونتابع الأخبار بقلق، ونفعل كل ما بوسعنا للحفاظ على الصلة مع الآخرين، لكننا كقراء أو متفرجين: نمدح دعاة العدم، ونصغي بلا توقف إلى السخرية من أفعال البشر الدنيئة. وهكذا حدث تباعد زاد منذ مطلع القرن الحادي العشرين بين ما نرغب في أن نحياه من (عطاء، وتضامن، وديمقراطية)، وبين ما نرغب في أن نستهلكه كثقافة (انتهاك، وعزلة، وعنف، ويأس، وأفكار عدمية).

من أين تأتي العدمية؟

وضحت نانسي هيوستن تطوراً حدث منذ قرنين من الزمان في اتجاهين متضادين ظاهرياً: هما الطوباوية أو المثالية، والاتجاه المضاد له "العدمية". وبين المدرستين، تيار "الخيار هو كذا" وتيار "ما من خيار". ترسم لنا نانسي هيوستن بعض مسلمات الفكر العدمي، وتبدأ بالنخبوية والأنانية، فالعدمية لا ترى البشر يستحقون أن يسموا أفراداً فهم يشكلون كتلة متجانسة، محكومة بغريزة القطيع، ومبتذلة، وامتثالية وغبية. يرى التفكير العدمي البشر يفكرون جميعهم بالطريقة ذاتها ويقومون بالأشياء نفسها، يتزوجون وينجبون فيسخر منهم. ويحيا العدمي بذاته كشخص متوحد، يحتمل عزلته ويدللها ويحميها، ويرفع عقيرته بالشكوى مما تجر عليه الوحدة من آلام.

ترى هيوستن في كتابها أن التفكير العدمي لديه اشمئزاز من الأنثوي، فالأم هي من تقذف بنا في الزمن وفي العالم، ونجد العدميين لديهم الرغبة المتكررة في لوم الولادة، واحتقار الحياة الأرضية والنأي بالنفس عن السياسة،  فيودون لو لم يولدوا أبداً.

تبحث نانسي هيوستن عن اللحظة التي ولد فيها الوعي العدمي. متى بدأ الخوف والعزلة والشعور بزوال سحر العالم؟ وتحدد ذلك بالقرن السابع عشر، بعد أن تبدلت النظرة للعالم في أوروبا وولدت الحداثة، وبعد انتقال الوعي من عالم مؤسس على الإلهي والخارج للطبيعة إلى عالم بشري. هكذا أصبحت جريمة الإنسان أنه ولد كما يقول بيدرو كالديرون، وأصبحت الحياة حكاية يرويها أحمق كما ينسب لماكبث. 

منذ الثورة الفرنسية 1789 زادت الرغبة في أن يتم إحلال الإنسان محل الإله، لكن الأمور ساءت بفشل ثورة 1848 وشهدنا مع جوستاف فلوبير وشارل بودلير ولادة العدمية الحديثة، إذ كتب الأول قصيدة الهاوية التي تلخص تلك الفلسفة، وبدءاً من العام 1880، نجحت فلسفة آرثر شوبنهاور، فاستقرت العدمية في الموقع الذي لم تغادره منذ ذلك الحين كأقوى مدرسة فكرية في أوروبا الغربية.

وفي القرن العشرين تسارع زوال سحر العالم، فلقد كشفت العلوم الحديثة نظرية التطور وعلم الجينات وعلم الاجتماع والتحليل النفسي، ورغم ذلك أكدت كل هذه العلوم الدور الذي تلعبه قوى لا سيطرة لنا عليها في التكوين النفسي لذواتنا، وكان الأمر صادماً. تسرد لنا نانسي هيوستن كيف حدث خلل في حياة المواطن الغربي بظهور الحداثة والعيش بفردية في مجتمع ملحد، وتخبرنا أنه حين اهتز الإيمان حملت الرواية الراية في قيادة حياة البشر الروحية، وكان العامل الحاسم في تربع التيار العدمي في أوروبا متمثلاً في صدمة الحرب العالمية الثانية. فقد أدت المجازر إلى العبثية، وتم التشكيك في جدارة الأدب في أن يكون إجابة على أسئلة البشر، أو حتى على قدرته على فهم العالم أو العيش فيه،  فتحولت العدمية من موضة فكرية إلى حقيقة الشرط الإنساني.

نسيان الولادة ورهاب الإنجاب

تشرح لنا نانسي هيوستن كيف أنه في عالم الكتابة والتعبير عن الذات تم نسيان الطفولة. إذ كتب الكثير من الفلاسفة عن ذواتهم ولم يعايشوا مولد طفل وتربيته، وتلاحظ أنه حتى الكثير من النساء قد كتبن لكن لم يكن مررن بتجربة الحمل والولادة. هنا ترى نانسي أن هناك نمطاً من الكتابة تأسس متأثراً بكراهية الأطفال. أي أن العدمية مصابة برهاب الإنجاب، بل إن إميل سيوران فيلسوف اليأس والعدمية يقول مغتبطاً: "لقد ارتكبت كل الجرائم عدا أن أكون أباً". ليس الأمر أن هؤلاء العدميين لا حق لهم في الكلام، بل الأمر أنه لا يحق لهم احتكار الحديث عن الحياة البشرية من وجهة نظرهم فقط.

بعناية تنظر نانسي هيوستن  للعلاقة بين الأنوثة والعدمية، فتراها علاقة تضاد وتناقض، حيث النساء أقل تأييداً لفلسفة العدم، فجسد المرأة يذكرها في كل لحظة من حياتها بحضور الآخر المحتمل. تشرح نانسي جزءاً من أفكارها عن الطفولة وفقد أمها في طفولتها وتجربتها مع أولادها وتجربتها مع الأفكار العدمية وهي تجربة إنسانية، صادقة غير قابلة للتلخيص.

هل الأدب يصف عالماً وردياً؟

تؤكد نانسي هيوستن أنها، وهي تنقد المذهب العدمي في الأدب، لا تدعو بأن الأدب ينبغي أن يكون مرحاً، وبهيجاً، ومفعماً بالأمل، وأنه ليس عليه أن يحدثنا عن الملائكة الطيبين والقطط الحريرية الملمس وأزهار الربيع فقط، ولا أن مهمته تقديم صورة إيجابية أو حتى صورة واقعية للوجود للإنساني، بل على العكس، ترى أن الفن في حد ذاته، وربما الأدب بوجه خاص، هو رفض للعالم القائم، وتعبير عن النقصان وقلق الوجود. إن من يشعرون بالراحة لأحوالهم ويعشقون الحياة عموماً ويرضون عن حياتهم خصوصاً لا يحتاجون أبداً لاختراع عالم مواز عن طريق الكلمات؛ بل إن نانسي تقول إن بعض القراء يشتكي من رواياتها؛ لأنها قاتمة ومتشائمة أو مثبطة للعزيمة، لكنها توضح أن هذا ليس له علاقة بالروايات التي ترتكز على مسلمات العدمية، التي ذكرناها.

الأدب العدمي حاضر في خريطة الأدب المعاصر، ويحظى بمختلف أشكال الإعجاب والتكريم بل يحصل العديد من أقطابه على جوائز مرموقة مثل نوبل. ما قامت به نانسي هيوستن في كتابها هو استخلاص الرسالة الفلسفية التي يحملها هؤلاء الكتاب، مع محاولة فهم لماذا يمارس هذا الأدب كل هذا السحر وكل تلك السطوة في أوروبا وفي العالم الآن. لعل في حديثها ما ينال من تعجرفه وتكبره. رفوف المكتبات تمتلئ بروايات ميلان كونديرا، وكتب سيوران وشوبنهاور، ما زال هناك من يبحث عنها. وكذلك مسرحيات صموئيل بيكت؛ بل إن بعضها يتحول لأفلام مثل روايات ألفريدة يلينيك. كل هذا يدعونا لقراءة هذا الكتاب وهو يقدم نقداً وقراءة جديدة لسطوة هذا الأدب بكل ثقله وحمولته.

لم أنس قصتي مع كونديرا، لكن إجابات نانسي هيوستن ليست قابلة للتلخيص إنها هناك تتهكم في كتابها على المتهكم الأشهر والساخر العدمي، ترميه وتلدغه بنفس طريقته.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد عبدالعزيز الهجين
كاتب مصري مهتم بالسير الذاتية والمذكرات
كاتب مصري مهتم بالسير الذاتية والمذكرات
تحميل المزيد