سورة يوسف نداء ودعوة للتفاؤل وحسن الظنّ بالله تعالى، ويوسف ويعقوب -عليهما السلام- لم يفارقهما التفاؤل أبداً حتّى في أحرج الظروف، ومن أمثلة ذلك:
لمّا فقد يعقوب -عليه السلام- ثلاثة من أبنائه قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 83].
– ومن أسباب اختيار هذه السّورة، معالجتها لثالوث خطير، كلّ واحد من أقطابه مهلكة، وقد منعت السّورة بمجمعها من دخولها، فمنعت من خوض بحر التنازل الّذي لا قعر له ولا ساحل، ومنعت من السقوط في هاوية الاستعجال، ومنعت من دخول بيداء اليأس المقفرة، فيوسف ووالده -عليهما السلام- لم يصاحبهما الاستعجال ولا اليأس، ولا التنازل.
وهذه الثلاثة إذا دخلت على الفرد قطَعته دون مراده، وإذا دخلت على الأمّة ألزمتها ذيل الأمم، فالاستعجال عاقبته وخيمة، ومن المقرر أنّ من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، قضاء وواقعاً. أما التنازل؛ فهو الدّاء الّذي وقع فيه كثير من النّاس مع الظّالمين، فكان من الطّبيعي ألّا يتحقّق لها النّجاح المأمول، وإنّما اليأس والتشاؤم، فإذا دخل على النّفوس أحبطها، وأتعبها وأثقلها ومن كانت نفسه متضعضعة مهزوزة، فأنّى له النصر؟ إنّ خذلان النّفس لصاحبها من أوّل أسباب انتصار عدوّها.
– فمن دروس هذه السّورة الثبات في منهج يوسف -عليه السلام- واطّراده وعدم تذبذبه من أوّل حياته، وحتّى آخر لحظات عمره، فهو مطّرد مستمر في منهج معتدل في سرّائه وضرّائه في البئر، في السجن، مع الملك، وهو يرفع أبويه على العرش، في كلّ أحواله الّتي قصّتها السّورة، نلحظ اطّراداً عجيباً. والدّعاة وطلّاب العلم، بل الأمّة، كلّ الأمّة، بشعوبها ودولها تحتاج إلى الاستقامة والاطّراد على المنهج الصحيح، وبخاصّة في هذه الظروف الّتي تُقلّب فيها رياحُ الفتنِ القلوبَ وتصرفها.
– تبيّن السّورة أهميّة القصّة وأثرها على حياة الداعي والمدعو، وقد اشتملت سور القرآن على عدد من القصص، كما بيّن الله في هذه السّورة. والحاجة ماسة لاستخدام هذا الأسلوب القرآني من قبل الدّعاة وطلاب العلم والمصلحين.
– في هذه السّورة دروس سلوكيّة وأخلاقيّة وتربويّة ونفسيّة مهمة.
وخذ في هذه العجالة على سبيل المثال نموذجاً إلى أن يأتي موضع التّفصيل. تأمّل في هذه السّورة الدّعوة إلى عفّة الّلسان، تجد يوسف -عليه السلام- قام أستاذاً وداعية يلقي المحاضرات العمليّة في هذه القصّة في كلّ مراحل عمره وأحواله:
صغيراً وكبيراً، مملوكاً ومالكاً، في حالة الشدّة ويوم أن فتحت له زهرة الدنيا، في حال الغضب والأسف، وفي حال الرّضا والفرح والغبطة، بل في كلّ السّورة. تأمّل موقفه من سجن الظلم والاستبداد، فإذا به يقول للرّسول: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 50]؛ طلباً لإظهار الحق مع عفّة نبيلة، فلم يُشر لامرأة العزيز، ولم يقل: اللاتي راودنني، وإنّما اكتفى بإشارة اقتضتها الحاجة إلى تبرئة مقام النبوّة.
ومن عفّة لسانه أيضاً، توريته عندما قالوا: ﴿يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 78]، فقال: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾ [يوسف: 79]؛ فما قال لن نأخذ إلّا السّارق؛ لأنّه يعلم أن أخاه لم يسرق، فكان عفيفاً في مقام المكايدة لم يخرج به المقام إلى أن يصف أخاه بما هو منه براء.
– كذلك نجد في هذه السّورة قواعد وأصولاً في السياسة الشرعيّة الّتي نحن في أمسّ الحاجة إليها في هذا العصر في الشّورى، في التخطيط، في بُعد النظر، في العدل، الّذي هو أساس قيام الدول وغير ذلك.
– نجد في السّورة أيضاً قواعد وأصولاً في معالجة الأزمات، بل إدارتها، على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمّة. وأمّتنا تمرّ بأزمات متنوّعة، ومن أقوى الأزمات الّتي ورد ذكرها في السّورة، السبع الشداد. وفي أسلوب إدارته -عليه السلام- للأزمة الّتي مرّت بمصر فوائد ينبغي أن نقف معها.
– نجد أيضاً في السّورة منهاجاً في الحكم على الرؤى، وبياناً لبعض شأنها، فالسّورة ذكرت الرؤيا في ثلاثة مواضع، وقد قال النبيّ ﷺ: "أيها النّاس! إنّه لم يبق من مبشرات النبوة إلّا الرؤيا الصالحة يراها المسلم. أو تُرى له..".
غير أنّه وقع فيها -عند النّاس- من الخلل والخطأ ما ينبغي التنبيه عليه، فهناك من أنكر إشارات الرؤى ودلالاتها، وقلّل من شأنها، وقال كما قال أصحاب الملك: ﴿أضغاث أحلام﴾. وبالمقابل هناك من غلا فيها، حتّى جعل من الرؤى تشريعاً – بكلّ أسف – وأهل الحقّ وفقوا للمنهج الوسط.
– نجد في السّورة كذلك بيان أن عاقبة المكر السيّئ خسارٌ وبوار، فإخوة يوسف -عليه السلام- مكروا به من أجل إبعاده، فكيف كانت العاقبة؟ وامرأة العزيز كادت ومكرت، وغلّقت الأبواب، وأعتدت للنّساء متّكأً، فلمن كانت العاقبة؟ وفي هذا عزاء للأمّة، فإنّ المكر الكبَّار يحاك الآن على مستوى الأمم، وعلى مستوى الدّول، ومستوى الشّعوب، والأفراد، وقصّة يوسف -عليه السلام- تقول لكلّ ماكر بباطل: إيّاك إيّاك! ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: 43]، وقال تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]. وفي ذلك طمأنينة للأمة وبيان لها بأنّ مكر أعدائها سيرتدّ عليهم.
– نجد في سورة يوسف قصص التائبين المستغفرين، وبيانَ أثر التّوبة والاستغفار في الحياة، وقد تتبّعت الدّعوةَ إلى التّوبة والاستغفار في القرآن، فوجدتّ أنّه ما من نبي إلّا وقد أمر قومه بهما، والاستغفار خفيف على اللسان، وهو مع ذلك من أخصّ الدّعاء، والدّعاء هو العبادة كما في الحديث، ويقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]؛ فالتّوبة والاستغفار من السمّات الظّاهرة في سورة يوسف.
– نجد في هذه السّورة استثمار الفرص، وخاصة من قِبل يوسف -عليه السلام-، وخاصة قبل أن يُسجن وأثناء سجنه وبعده، وحتّى آخر مراحل عِزّه. وإن الأمّة بحاجة إلى أن تستثمر الفرص استثماراً حقيقيّاً في موضعه، فتركُ الفرصِ غَصَص، والفرصة سريعة الفوت، بطيئة العود.
– وفي سورة يوسف -عليه السلام- يضرب يعقوب ويوسف ع-ليهما السّلام- مثالاً نادراً في الصّبر بكلّ أنواعه ففازا في الدّارين، وخلّد الله تعالى ذكرهما في كتابه؛ ليعلّم النّاس: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 90]. والأمّة بحاجة إلى من يعلّمها الصبر، وحريٌّ بنا أنّ نقتدي بالّذين هدى الله وجعلهم أئمّة.
– أشارت السّورة الكريمة لصفة الإحسان، وهي من أميز الصفات الّتي تحلّى بها يوسف -عليه السلام- وشهد له بها كلّ من عرفه، وهي لا تعني مجرّد التصّدق على المساكين كما يتبادر لذهن الكثيرين، ولكنّ معناها أوسع وأشمل، وهذه الإشارة إنّما هي دعوة للمؤمنين للاقتداء بهؤلاء الأعلام؛ لينالوا الرفعة في الدنيا والآخرة.
– أشارت السّورة الكريمة لمقوّمات النّصر والتّمكين، وأمتنا في أمسّ الحاجة لتأمّلها والعمل بها للخروج من هذه الهوّة الّتي تردّت فيها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.