حكايات مروعة وقمع دام لقرنين.. الذكرى السنوية لاحتلال الصلييبيين لمدينة القدس

عربي بوست
تم النشر: 2023/07/14 الساعة 14:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/07/14 الساعة 14:25 بتوقيت غرينتش
استيلاء الصليبيين على القدس عام 1099 -The Bridgeman Art Library

امتدت حقبة الحروب الصليبية نحو 200 سنة، وأدت إلى احتلال أجزاء كبيرة من بلاد الشام، في القلب منها مدينة القدس، وتشكل هذه الحروب نموذجاً للمقارنة بين واقعنا اليوم، وواقع الأمة قُبيل الاحتلال الصليبي، حيث طغى عليه التشرذم والضعف، والخلافات المذهبية والفكرية والسياسية التي أضعفت الأمة وجعلت الاحتلال الصليبي للقدس ممكناً، وهي نفس الحالة التي دفعت الأمة إلى النهوض من كبوتها، وتوحيد جهودها لتحقيق النصر والتحرير.  وما أشبه اليوم بالبارحة؛ إذ تأتي ذكرى الاحتلال الصليبي لمدينة القدس في 15 يوليو/تموز في وقتٍ تعاني منه المدينة من تغول الاحتلال، وسياساته لتهويد معالم المدينة واجتثاث سكانها، لذا سنحاول ذكر ما حدث لعلنا ننهض من جديد.

شرارة الحروب الصليبية

قامت الحروب الصليبيّة نتيجة عوامل سياسيّة واقتصاديّة ودينيّة واجتماعية مختلفة، وهي الأسباب التي دفعت آلاف الأوروبيين إلى المشاركة فيها، للاستفادة من هذه الفرصة، للتخلص من واقعهم السيئ، أو للحصول على كنوز الشرق العظيمة. وبدأت شرارة هذه الحروب بخطاب ألقاه البابا أوربان الثاني في 27 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1095م، في كليرمونت في فرنسا، دعا فيه أوروبا إلى إعداد حملات عسكرية لتحرير القدس والبلاد المقدسة من ما سماه "الشيطان". ودعا أوربان ملوك أوروبا حينها إلى نبذ خلافاتهم، كما أعلن منح الغفران لكل من سيشارك فيها. 

ومع تلبية النداء البابوي انقسمت الحملة الصليبية الأولى إلى حملتين؛ الأولى حملة العامة والغوغاء، أما الثانية فكانت حملة الأمراء، لم تصمد حملة العامة بقيادة بطرس الناسك كثيراً، فقد قضى عليها سلاجقة الروم قبل أن تصل إلى المشرق. ولكن حملة الأمراء كانت أكثر تنظيماً وقوة، فقد شارك فيها أعدادٌ كبيرة من الفرسان والمشاة، إضافةً إلى الآلات العسكرية القوية، وقادها كثيرٌ من أمراء أوروبا، من بينهم الدوق جود فري دي بويون، وريموند أمير تولوز، والكونت بوهمند من من سادة ترنتو، واستطاعت هذه الحملة التوغل في الأراضي الإسلامية، وهزيمة السلاجقة، ولم تواجه أي مقاومة فاعلة تذكر، نتيجة التشرذم والضعف البالغين في الإمارات الإسلامية في بلاد الشام، فسقطت مدينة أنطاكيا بعد حصارٍ طويل عام 1098م.

أهوال وفظائع جرت في القدس

واستمر زحف الحملة الصليبية إلى مدينة القدس، التي سقطت في 15 يوليو/تموز عام 1099م الموافق 23 شعبان 492 هـ. فارتكب المحتلون مجازر فظيعة، وحول ما جرى في المدينة من مجازر وفظائع يقول المؤرخ ابن الأثير "لبث الفرنج في البلدة أسبوعاً، يقتلون فيه المسلمين"، ويقول "قتل الفرنج بالمسجد الأقصى، ما يزيد على سبعين ألفاً، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبّادهم وزهادهم، ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف ".

ولم تكن رواية ابن الأثير هي الوحيدة التي أوردت تلك الفظائع، إذ تنقل المصادر شهادة القس ريمند الإجيلي وهو أحد مرافقي الحملة وشاهد ما جرى في المدينة، فيقول: "شاهدنا أشياء عجيبة، إذ قُطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين وقتل غيرهم رمياً بالسهام، أو أرغِموا على أن يُلقوا أنفسهم من فوق الأبراج، وظل بعضهم الآخر يعذَّبون عدة أيام، ثم أحرِقوا في النار!! وكنتَ ترى في الشوارع أكوامَ الرؤوس والأيدي والأقدام! وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل"!

ويذكر المؤرخ الأمريكي ويليام جيمس ديورانت في كتابه قصة الحضارة أن النساء كُنَّ يُقتلن طعناً بالسيوف والحراب، والأطفال الرُّضّع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويقذف بهم من فوق الأسوار، أو تهشّم رؤوسهم بدقها بالعَمَد، وذُبح السبعون ألفاً من المسلمين الذين بقوا في المدينة، بينما احتشد المنتصرون في كنيسة الضريح المقدس، إذ كانوا يعتقدون أن مغارة فيها احتوت في يوم ما جسد المسيح. وفيها أخذ كل منهم يعانق الآخر ابتهاجاً بالنصر، وبتحرير المدينة، ويحمدون الرحمن الرحيم على ما نالوا من فوز.

ويورد الدكتور براء نزار ريان في مادة عن تاريخ القدس والأقصى في العصور الإسلامية المختلفة رواية تحصي أعداد العلماء الذين قتلوا في الأقصى حينها، إذ ينقل رواية عن القاضي ابن العربي الأندلسي تقول إن الصليبيين قتلوا "العالمة الشيرازية" وهي من أبرز العلماء ونحو ألف من تلميذاتها المرابطات بالأقصى، وقتلوا كذلك "ثلاثة آلاف من العلماء والصُّلَحاء كانوا زينة أروقته وأكنافه".

وشملت هذه الفظائع كل من يسكن مدينة القدس في ذلك الوقت من المسلمين وغيرهم، إذ تُشير المرويات الأوروبية عن الحروب الصليبية، أن الصليبيين أحرقوا معبداً لليهود في القدس، وقتلوا معظم من كان في المدينة منهم، ومن بقي من اليهود تم بيعهم عبيداً (بيع 30 يهودياً بدينار واحد مثلاً).

تدنيس الأقصى وتغيير معالمه

ولم تقف هذه الاعتداءات عند قتل الذين احتموا بالمسجد فقط، وإبادة سكان المدينة في سياق الإحلال الديموغرافي الفرنجي، بل قام المحتلون بنهب المسجد، وما كان فيه من قناديل وسلاسل وغير ذلك، إذ تذكر بعض المصادر الإسلامية أن الصليبيين سرقوا من مصلى قبة الصخرة أكثر من أربعين قنديلاً من الفضلة، وزن كل واحدٍ منها نحو ثلاثة آلاف وستمئة درهم، إضافةً إلى نحو عشرين قنديلاً من الذهب، وغيرها مما كان في سائر مصليات الأقصى، فقد حرص الخلفاء والسلاطين على الاهتمام بعمارة المسجد وإنارته وفرشه.

وبعد إتمام احتلال المدينة عمل الصليبيون على تدنيس المسجد وتغيير معالمه، فقد زار ابن واصل الحموي مدينة القدس في نحو عام 1243م/641هـ، فقد أورد في كتابه "مفرِّج الكروب": "دخلتُ البيت المقدس ورأيتُ الرهبان والقُسوس على الصخرة المقدسة، وعليها قناني الخمر برَسْم -لأجْل- القربان، ودخلت الجامع الأقصى وفيه جرَس معلَّق، وأُبطِل (أوقِفَ) بالحرم الشريف الأذانُ والإقامة، وأُعلِن فيه بالكفر".

وتُشير هذه الرواية إلى التغييرات الكبيرة التي أحدثها المحتلون في المسجد الأقصى، فقد حولوا مصلى قبة الصخرة إلى كنيسة سموها "كنيسة السيد المسيح"، وفي روايات أخرى "معبد الرب"، ورفعوا فوق قبتها الصليب، وبلغ من جشع المحتلين أنهم كانوا يبيعون أجزاء من الصخرة بوزنها ذهباً، كما أقاموا عليها مذهباً، وثقبوا الصخرة لكي يتم تصريف دماء القرابين من عليها. أما المصلى القبليّ فاقتطعوا جزءاً منه ليكون كنيسة، أما الجزء الآخر فاستخدمه فرسان الداوية مقراً لهم، وحولوا مصليات الأقصى الأخرى إلى إسطبلات للخيول ومستودعات للأسلحة.

استعادة الألق بعد التحرير

بعد تأسيس الممالك الصليبية في المشرق الإسلامي، بدأ تبلور حالة المواجهة مجدداً، وبعد 88 عاماً من احتلال القدس استطاع صلاح الدين تحرير المدينة بعد استسلام حامية المدينة، وتم تسليمها في 27 رجب 583 هـ الموافق 2 أكتوبر/تشرين الأول عام 1187م، بالتزامن مع ذكرى الإسراء والمعراج، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسوار القدس، وأمر صلاح الدين بإزالة ما أقامه المحتلون في المسجد الأقصى، وأمر بجلب منبر نور الدين زنكي إلى الأقصى.

وبلغ من اهتمام صلاح الدين بالمسجد الأقصى، أن أمر بغسل مبانيه ومساجده بعد إزالة تعديات الفرنجة بماء الورد والمسك، وأقيمت أول جمعة بعد ثمانية أيام من الفتح، وقام بترتيب شؤون المسجد الأقصى من بسط وقناديل وغيرها، وعين المؤذنين والخطباء ومن يقوم بشؤونه، وأقام عدداً من المدارس والأربطة، وأوقف على هذه الأمور أوقافاً مختلفة. وكان يوم تحريرها عرساً في أرجاء أمة الإسلام التي كانت تتعطش لاستعادة المدينة إليها.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي إبراهيم
كاتب فلسطيني
باحث في مؤسسة القدس الدولية
تحميل المزيد