انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي من مدينة جنين الفلسطينية ومخيمها، مخلّفة دماراً كبيراً، وتعمدت تخريب البنية التحتية للمخيم، مستخدمين في ذلك جرافات لتدمير أرصفة الشوارع، وتدمير محطات الكهرباء، وهدم المساجد، خلال المواجهات التي نشبت بين قوات الاحتلال والشبان الفلسطينيين بالمخيم، وأسفرت عن استشهاد 12 فلسطينياً بينهم خمسة أطفال، وأكثر من 140 مصاباً، بينهم 30 بجروح خطيرة، حيث باتت الشوارع تحمل الكثير من آثار دماء الشهداء والمصابين الذين واجهوا بنادق ورصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، خلال اقتحام المخيم، بحجة البحث عن مطلوبين أمنيين داخل أحد المساجد.
ويرى البعض أن الانسحاب الإسرائيلي من المخيم لا يسدل كلمة النهاية على المشهد، بل يطرح العديد من التساؤلات حول التطورات القادمة.
عُرف عن مدينة جنين ومخيمها، على مرّ التاريخ، أنها مصدر خوف ورعب شديد، حيث حاول الاحتلال الإسرائيلي على مرّ السنين كسر شوكتها، إلا أنها في كل مرة تثبت أنها مدينة عصية على الاحتلال.
ومن خلال ذلك لا بد من التحرك على الصعيد الفلسطيني وضرورة العمل من أجل تدويل الصراع، وإجبار إسرائيل على إنهاء احتلالها وفقاً لقرارات الشرعية الدولية، وكذلك صدق التوجه الفلسطيني للمحاكم الدولية من أجل محاسبة غيلان التطرف والاستيطان في الجانب الآخر.
الحكومة الإسرائيلية تتحمل كامل المسؤولية عن هذه المواقف العنصرية التحريضية ونتائجها وتداعياتها على التصعيد الحاصل في ساحة الصراع، خاصةً أنها تشكل مظلة لميليشيات المستوطنين، ومنظماتهم الإرهابية المسلحة، وتشجعها على ارتكاب المزيد من الاعتداءات والجرائم بحق المواطنين الفلسطينيين المدنيين العزل وبلداتهم وممتلكاتهم وأرضهم ومنازلهم ومقدساتهم.
يجب على المجتمع الدولي إدراك حقيقة الأمر وخطورة استمرار حالة الصمت وعدم التعامل الدولي مع الفاشية الإسرائيلية، والانتقال من مربع تشخيص الائتلاف الحاكم وأفعاله التخريبية وتوصيفها إلى مربع الأفعال والمحاسبة وفرض العقوبات الرادعة.
حكومة التطرف الإسرائيلية تدفع بالمستوطنين وجرائمهم إلى واجهة الأحداث والاعتداءات في الضفة، بهدف دفع الدول والأمم المتحدة لتغيير وجهة مطالباتها، والتركيز على الدعوة لوقف اعتداءات المستوطنين وليس المطالبة بوقف الاستيطان، وبات من الواضح أن تعمُّد الحكومة الإسرائيلية تصعيد الأوضاع في ساحة الصراع يندرج في إطار سباقها مع الزمن لاستكمال حلقات ضم الضفة.
الاحتلال الإسرائيلي وميليشيات المستوطنين يتعمدون إحراق القرى وترهيب المجتمعات وتهجير العائلات وسرقة الأراضي الفلسطينية والاعتداء على المدنيين الفلسطينيين وقتلهم وجرحهم، بمن فيهم الأطفال، وحياة أبناء الشعب الفلسطيني لا تزال معرضة للخطر، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي فقط يمكن أن يضمن حماية الشعب الفلسطيني.
حكومة الاحتلال تمارس جريمة حرب وإرهاب دولة حقيقياً، الأمر الذي يتطلب محاسبتها على كافة المستويات، ومنها المحكمة الجنائية الدولية، والعدوان على الضفة الغربية هو استمرار لسياسة العدوان على الشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده بقطاع غزة والقدس، وهذا التصعيد يتطلب العمل على فضح الاحتلال على المستوى الدولي، وأهمية استمرار الضغط على الاحتلال لوقف عدوانه على الشعب، ووقف انتهاكاته للقانون الدولي الإنساني.
ليس جديداً أن تعمد قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى اجتياح مدينة جنين ومحيطها، فاقتحام المخيمات والقرى والبلدات والمدن الفلسطينية سياسة منهجية قديمة ومتأصلة، تتفاوت توقيتاتها وتتنوع أغراضها طبقاً لاعتبارات طارئة أو أخرى دائمة، لكنها تنبثق على الدوام من داخل الطبيعة الاستيطانية والعنصرية والعسكرية والأمنية، التي انتهى إليها الكيان الصهيوني، كما تقترن بسلسلة أوهام الاحتلال في ترسيخ استراتيجية اعتماد القوّة المفرطة لردع المقاومة الفلسطينية في شتى تعبيراتها وطرائقها، وباتت جنين بؤرة ساخنة خلال موجة من العنف الإسرائيلي الفلسطيني، تهز الضفة الغربية منذ أكثر من عام.
وأصبحت المواجهات المميتة في المنطقة تحدث بشكل منتظم، وآخرها الشهر الماضي، عندما درات مواجهات استمرت ساعات في جنين، قُتل خلالها 6 فلسطينيين وأصيب أكثر من 90 فلسطينياً، و7 إسرائيليين.
طبعاً لا يمكن الاستهانة بسقوط 12 شهيداً ونحو 100 جريح بين صفوف هؤلاء السكان، ولا باضطرار نحو 3000 منهم إلى ترك منازلهم بصورة مؤقتة، بعد انقطاع الماء والكهرباء فيها، وخشية الوقوع ضحايا العدوان، لكن على الرغم من هذه المعاناة فإن سكان هذا المخيم عبّروا من جديد عن التفافهم حول المقاومين، وعن عزمهم على الصمود داخل مخيمهم، حتى إن القسم الأكبر من الذين نزحوا عن المخيم ما لبثوا أن عادوا إليه، ما إن توقفت المعارك، وانضموا إلى عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين شاركوا في تشييع جثامين الشهداء.
أعادت الهجمات الإسرائيلية على جنين، وما ارتبط بها من سياسات استهداف للبنية التحتية مع التهجير، الحديثَ فلسطينياً عن أن ما يحدث في المخيم هو جزء من سياسة إسرائيلية أكبر، تهدف إلى تفريغ مناطق في الضفة من الوجود الفلسطيني بشكل يصب بدوره في القضاء على فرص وجود دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة وعاصمتها القدس الشرقية. وأسهم في تلك الرؤية السياق السابق على الهجوم الإسرائيلي على مخيم جنين، وخاصةً الإعلان عن مخططات استيطانية جديدة، وتعديلات تختصر الخطوات المطلوبة فيما يتعلق بالاستيطان، وتصريحات نتنياهو عن الدولة الفلسطينية.
أسهم العديد من التطورات في تعقيد المشهد الفلسطيني، وإن كانت الهجمات الإسرائيلية ضد مخيم جنين جزءاً من تفاصيل التصعيد الإسرائيلي، والسياسات الأكثر تطرفاً التي تتبعها الحكومة القائمة، وأحد التطورات المهمة في مشهد التصعيد القائم، إلا أنه لا ينفصل عن الحديث الإسرائيلي عن استهداف فكرة الدولة الفلسطينية، وتعامل نتنياهو مع اجتثاث الفكرة بوصفها الهدف المطلوب تحقيقه، وليس الوصول إلى تلك الدولة وتسوية الصراع. تتشابك تلك الأبعاد بدورها مع العديد من المواقف التي يعبر عنها أعضاء الحكومة الإسرائيلية القائمة، فيما يتعلق بتصورهم للدولة الفلسطينية، والحقوق الفلسطينية، وما يمكن أو لا يمكن التفاوض حوله، بشكل يغلق الباب أمام المسار السياسي، ويفرض ضغوطاً على السلطة الفلسطينية والقوى الدولية والإقليمية المعنية بالتسوية السلمية.
في كل الأحوال، فإن حصار مدينة فلسطينية، وما يصاحبه من إرهاب جماعي لسكانها، والتأثير على الحياة اليومية هناك لفترة طويلة، قد يؤدي إلى انفلات الأوضاع والتي يمكن أن تبدأ باحتكاكات مع متظاهرين فلسطينيين داخل مخيم جنين، بواسطة القوات. باختصار الترسانة الإسرائيلية فشلت أمام بوابة مخيم جنين وإحضار ألف جندي وأجهزة وسلاح الجو دليل على الخوف من المواجهة، وأظهر العجز بالنزول إلى الميدان أن جنين ما زالت قنبلة موقوتة تشكل الرعب والقلق لكل المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية، سيكتب التاريخ أن 40 ساعة من المعركة هي الأعنف في تاريخ القضية الفلسطينية، لأنها شكلت فضيحة عسكرية أمام العالم، ومع ذلك تتفاخر أنها قتلت ودمرت وعملت وما زال المخيم قنبلة موقوتة.
لطالما تغاضى المجتمع الدولي أو وجد تبريرات للحقيقة التي باتت واضحة أكثر فأكثر على أرض الواقع. كل يوم يولد أشخاص في غزة في سجن بسقف مفتوح، وفي الضفة الغربية بلا حقوق مدنية، وفي إسرائيل بمكانة أدنى بموجب القانون، وفي بلدان الجوار بوضع لاجئ مدى الحياة، مثل أهاليهم وأجدادهم من قبل، فقط لأنهم فلسطينيون وليسوا يهوداً.
الوصول إلى مستقبل متجذر في الحرية والمساواة والكرامة لجميع الناس الذين يعيشون في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة سيبقى أمراً بعيد المنال، في ظل استمرار ممارسات إسرائيل المسيئة ضدّ الفلسطينيين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.