في أبريل 2023 الماضي، حقق نادي ألكمار الهولندي بطولة دوري أبطال أوروبا للشباب، بتسجيله 19 هدفاً، ودخل شباكه هدفان فقط في مراحل خروج المغلوب. وهزم نادي هايدوك سبليت الكرواتي 5-0 في النهائي، بعد أن كان قد أقصى بالفعل إينتراخت فرانكفورت، وبرشلونة، وريال مدريد، وسبورتينغ لشبونة.
تؤكد تلك النتائج وذلك الإنجاز أن شيئاً عظيماً يُطبخ خلف الأضواء في أكاديمية ألكمار. قد يُحكى عن مهارات النادي العالية بالتدريب واكتشاف المواهب، لكن هناك ما هو أكثر بكثير من ذلك، لأن في أكاديمية ألكمار يقومون بدراسة أدغمة اللاعبين الذين تقل أعمارهم عن 12 عاماً لفهم إمكاناتهم بشكل أفضل.
علم وليس سحراً
"كرة القدم لا تُعتبر في الأساس نشاطاً بدنياً بقدر ما هي نشاط دماغي، العضلات والرئتان ثانويتان، الدماغ هو الأساس، يُمكن تسمية الأمر بالسحر، ما هو معلوم أنه لا يُمكن قياس السحر، لكنه يُمكن قياس وظائف الدماغ".
بهذه الطريقة الغامضة عرض إريك كاستيان، مؤسس "BrainsFirst"، مشروعه على مسؤولي نادي ألكمار الهولندي، بطل دوري أبطال أوروبا للشباب لهذا الموسم، والنادي الذي وصل فريقه الأول أيضاً إلى نصف نهائي بطولة دوري المؤتمر الأوروبي.
كاستيان ليس عالِماً، بل مجرد رجل هولندي وصحفي سابق لديه فضول كبير، بدأ رحلته في العام 2011 عندما كتب كتاباً عن تحديد المواهب في ريال مدريد وبرشلونة.
خلال رحلة المعرفة الخاصة به اكتشف أن كل الأشخاص داخل أكاديميات برشلونة وريال مدريد يعرفون كل شيء عن المواهب، وأن كِلا الناديين يتفقان أن تقييم المواهب يرجع إلى 4 عوامل جسدية وذهنية وتكتيكية وتقنية، لكن كانت هناك مشكلة، أن هناك عنصراً خامساً لم يتمكنوا من تحديده.
أطلق عليه بعض المدربين هناك اسم السحر، وأطلق عليه آخرون اسم الصندوق الأسود، إما أنك تمتلكه أو لا تملكه، لكن لا أحد يعرف ما هو، هل كانت رُكبة ثالثة، أم سناً حادية عشرة؟ الإجابة كانت تكمن داخل الدماغ، لأنه كان هذا هو الصندوق الأسود الذين فشلوا بتحديده.
لقد فهموا حدسياً أن هناك شيئاً حاسماً لا يُمكنهم الاستيلاء عليه، كانوا على دراية به، لكن لم يتمكنوا من فك تشفيره وتحويله إلى بيانات ملموسة وقابلة للتنفيذ.
كانت نقطة البداية هي التحدث إلى اثنين من علماء الأعصاب في جامعة أمستردام. لقد سخروا من فكرة السحر، لأن التفسير العلمي واضح، كان الأمر يتعلق بوظيفة الدماغ ولم يكن مجرد سحر.
استغرق الأمر 4 سنوات من قبل كاستيان وعلماء الأعصاب في "BrainsFirst"، أولاً لإثبات قدرتهم على تحديد وظائف الدماغ المطلوبة لتكون لاعب كرة قدم. بعد القيام بذلك احتاجوا إلى 6 أعوام أخرى لإثبات قدرتهم على استخدام ما وصلوا إليه للتنبؤ بالأداء المستقبلي للاعب.
بحلول العام 2016، كانت اختباراتهم التي أجريت بشكل ألعاب للأطفال، قادرة على تحدي أجزاء مختلفة من الدماغ، والنظر في الذاكرة والترقب ومدى الانتباه والتحكم بالنفس.
كان دور كاستيان هو الربط بين العلمين، فعلم الأعصاب يلتقي مع كرة القدم، لقد أراد إنشاء جسر بينهما لفك السحر وفهم ذكاء اللعبة، لذلك لم يكتفِ بدراسة أكاديميات برشلونة وريال مدريد، بل زار أيضاً أكبر الأندية في هولندا وملاعبها ليصنع ملعبه الخاص.
يقول كاستيان: "أبحث عن لاعبين ليسوا متميزين جسدياً وعقلياً وتكتيكياً وفنياً فحسب، بل معرفياً أيضاً. إذا كنت وصلت لمستوى كرة قدم النخبة بسن 16، ورُبما حتى تلعب مع المنتخب الوطني، ولكنك تسجل بشكل ضعيف مراراً وتكراراً في اختباراتنا، فمن المحتمل ألا تنال فرصة، لأن الأمر يتعلق بتحديد الإمكانات المستقبلية وليس الأداء الحالي بالمقام الأول، حيث لا تزال جميع الأندية تقريباً تفعل ذلك".
عندما يبدأ كاستيان بالحديث عن قياس القشرة الأمامية في مقدمة الرأس لطفل يبلغ من العمر 12 عاماً، فمن الطبيعي أن تشعر بغرابة، يبدو الشرح وكأنه تقرير لحالة طبية وليس كرة قدم، أو تقرير عن عملية جنائية، حيث يجد الأطفال أنفسهم مذنبين بارتكاب جريمة متمثلة في عدم كونهم أذكياء بما فيه الكفاية.
يتفق كاستيان مع جزء من تلك النقطة بأن الأمر قد يكون قاسياً، لكنه لا يتعلق بالذكاء العام؛ بل يتعلق بما يجعلك ذكياً وما إذا كان ذلك يناسب سياق كرة القدم الخاصة بالنخبة. فتحديد قدرات المواهب بناءً على الآراء الشخصية والاستدلال الذاتي هو أمر أكثر ظلماً؛ لأن الاختبارات التي قضوا سنوات بدراستها هي موضوعية على الأقل، من وجهة نظر كاستيان.
عندما قدّم مشروعه لألكمار، أوضحت إدارة النادي أن هدفهم كذلك هو تنبؤ اللاعبين الذين قد يُصنفون من النخبة مستقبلاً. وأن بنهاية المطاف، هدف النادي هو تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح والمكاسب الرياضية والرأسمالية، لذا هم مُستعدون للمُقامرة. فأندية مثل ألكمار هي أكثر انفتاحاً لمشاريع مُشابهة، لأن إداراتها تعلم أن عليهم العمل بشكل مختلف ولا تُقلد منهجيات عمل الفرق الأقوى منها لتُنافسها.
بعد سن 16، إذا لم يكن اللاعب في المنحنى الأخضر، فلن يكون في المنحنى الأخضر أيضاً بعمر 22. هذه ليست فكرة جذابة للغاية للناس؛ لأنهم يرغبون في الاعتقاد بأنهم قادرون على تطوير أي شخص. في الحقيقة يُمكنهم ذلك؛ لكن أندية النخبة في كرة القدم تُريد لاعبين أكثر ذكاءً بأقل فترة ممكنة.
هذا هو السبب أيضاً في أن اختبارات "BrainsFirst" لا تؤكد بشكل قاطع أن هذا اللاعب لن ينجح مع أندية النخبة. ما تقوله هو أن الاحتمال أعلى أو أقل. فدراساتهم أثبتت أن المجموعة التي لديها ذكاء معرفياً أعلى ضمن فئاتها العمرية ارتفعت قيمتها السوقية أعلى بنسبة 6 إلى 7 أضعاف مقارنة بالمجموعة ذات المعرفة الأقل.
الجميع سيعتبر ذلك منطقياً وهو كذلك؛ لكن التساؤل الأكبر بالنسبة لكاستيان، هو إن كان الذين اتفقوا حيال تلك النسبة لكنهم يختلفون حيال أُسس عمله وهم قادرون على أن يعرفوا إذا كان هناك لاعب يبلغ من العمر 15 عاماً يتمتع بالذكاء الكافي ليحقق النجاح بعد 8 سنوات؟ لأن حسب ما يقوله، هم لا يستطيعون في أغلب الحالات، لكن مشروعه يستطيع فهو لم يخترع الدماغ من جديد، بل يربط وظائف الدماغ بالأداء في الملعب بطُرق وأبحاث علمية.
الخدعة والمهارة
"كرة القدم اليوم أصبحت أسرع وأكثر تطلباً. إنها أكثر تعقيداً.. لم يعد لديك جناح كلاسيكي، لديك لاعبون يتبادلون مناطق.. هذا أكثر تعقيداً بالنسبة للدماغ".
يشرح كاستيان أنه في كرة القدم الحديثة، أصبحت المساحة والوقت أقل، لذا يجب أن تُحل المشاكل بشكل أسرع. لا يبدو الأمر وكأن المختصين يقولون إن كرة القدم تتطلب لاعبين أكثر ذكاء، بل كرة القدم نفسها هي من تقول ذلك.
عندما ينتقل لاعب من الدوري الهولندي إلى البريميرليغ، تخرج التساؤلات بأنه لأمرٌ غريب كيف أن قرارت أولئك اللاعبين مع الكرة وبدونها بطيئة للغاية. رد الفعل المتوقع هو توجيه المدرب البدني ليجعل أرجلهم أقوى. ربما تكون هذه فكرة جيدة. ولكن من الجيد أيضاً معرفة ما إذا كان الدماغ يرسل الرسائل بسرعة كافية لإخبار العضلات بما يجب القيام به.
كيفين دي بروين على سبيل المثال، واحد من أفضل لاعبي الوسط في العالم حالياً، عندما كان لا يزال لاعباً في أكاديمية غينت البلجيكي، تم إنزاله لمرحلة سنية أقل من عمره حتى يتمكن من اللعب في مباريات متساوية ويُظهر مهاراته بشكل أفضل فيها.
ذلك القرار اتخذه أحد مدربي الأكاديمية بالاعتماد على الاستدلال الذاتي، ساعد بتطوير كيفين الصغير الذي لم يكن يتطور بسرعة قبل ذلك القرار، ولا يُظهر مهاراته على الرغم من إمكانياته العالية. استدلال ذاتي كان قادراً على إنقاذ مسيرة طفل صغير، لكنه رُبما لم يستطع إنقاذ مسيرة أطفال آخرين، وهذا ما ينجح العلم بحله.
هناك فرق كبير بين جميع الأندية. لا يبدو خبراً جديداً لأي شخص أن الأندية الكُبرى مُعتادة على الاعتقاد بأنهم إذا ارتكبوا خطأً ما، لديهم ما يكفي من المال لتصحيح ذلك الخطأ.
تفرض قوة الأندية الأوروبية الكُبرى مالياً قيوداً على طموح أندية أقل منها مثل ألكمار. لكن يجب أن تكون الأندية المُنافسة أذكى. عادة ما يفوز المال في النهاية، لكنْ خدشٌ صغيرٌ، سيتلوه خدشٌ أكبر منه وظاهري. في أبريل الماضي، لمحت كرة القدم ذلك الخدش بتحقيق ألكمار بطولة دوري أبطال أوروبا للشباب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.