يبحث الجميع عن تطوير نسله، وعن إيجاد الصفات المميزة لغرسها بنسله، فمن منا لا يحلم بأولاد ذوي بشرة صافية وعيون خلابة وملامح جذابة وأجسام قوية، حتى يتناسلوا الجينات بينهم، ولكن لنفهم كيف تتم هذه العملية لنتعرف معاً على مفهوم تحسين النسل، والذي كنا نعتبره ضرباً من ضروب الخيال.
ما هو علم تحسين النسل أو eugenics
هو علم أسسه العالم البريطاني فرانسيس غالتون (1911 -1822) وهو عالم كان مهووساً بمراقبة السلوك البشري بجانب دراساته في العلوم الأخرى كعلم النفس والأنثروبولوجيا، حيث بدأ فرانسيس الاهتمام أكثر فأكثر بتوصيف السلوك البشري والصفات الجسمانية والقدرات العقلية.
يعمل علم تحسين النسل على دراسة كافة العوامل المؤدية إلى تحسين الجنس البشري عقلياً وجسمانياً أو حماية الصفات الجينية النقية لتتوارثها الأجيال القادمة لبقاء الجنس البشري في أفضل صورة ممكنة؛ لتفادي ولادة أطفال بأمراض وراثية، ومن هنا اكتشفنا أن علم تحسين النسل لا يتوقف فقط على تفادي حدوث أمراض أو نقاء السلالات، بل يهدف إلي تقوية السلالة لما هو أكثر تميزاً في الذكاء والقدرات الجسمانية.
وبالعودة لفرانسيس غالتون، فقد وضع بعض الأدوات والمقاييس التي تحدد عبقرية الشخص بالطريقة النسبية وهي طريقة تسمح له في النهاية بمعرفة نسبة الأفراد الذين يتفوقون على فرد معين في ذكائهم، وهي حتى الآن إحدى الطرق المستخدمة في علم النفس.
لم يكتفِ غالتون بتطبيق هذه النظرية في القدرات العقلية والفكرية فقط، بل طبقها على الجوانب الجسمانية كالطول والقوة، وكان دائماً ما يحاول أن يدمج بين الصفات الجسمانية والعقلية بنفس الطريقة، ودائماً ما كان يجد عامل ارتباط بين الطول والذكاء، ولذا وجد ارتباطاً أصيلاً بين الحوادث الاجتماعية والجسدية والبيولوجية.
في عام 1904 عرف غالتون هذا العلم على أنه "دراسة العوامل التي يُستطاع أن تُراقب اجتماعياً، ويمكنها أن ترفع الصفات العرقية للأجيال المقبلة أو تخفضها من الناحيتين الجسمية والعقلية".
تحسين النسل في الماضي
لكن هل تظن أن غالتون هو أول من استعمل أساليب تحسين النسل، فهذا رأي خاطئ تماماً، فعلم تحسين النسل هو علم قديم، فقد كانت من عادات أسبرطة القضاء والتخلص من الأطفال المشوهين جسمانياً وعقلياً فقد عرض أفلاطون عن طريق سقراط منهاجاً لتحسين النسل عن طريق اختيار الزوجين الصالحين لهذا ولا يسمح للأطفال المولودين مشوهين بالبقاء على قيد الحياة إذا لم يكونوا مطابقين لقوانين وقواعد تحسين النسل التي تم وضعها.
في ظاهر الأمر، يبدو أن غالتون جاء مبكراً في تطوير علم تحسين النسل، ولكن هذه القواعد تم إرثاؤها من قبل الإغريق، فقد وجد العلماء في هذه الحقبة أن تنفيذ قواعد غالتون قد تؤدي إلى بعض القرارات التي من الصعب تنفيذها كالتعقيم والإخصاء لبعض الأفراد، لذا وجدوا أن تطبيق نظريات غالتون بها كثير من المخاطر على الصحة العامة للأفراد.
وكان غالتون دائماً ما يشجّع على فكرة التزاوج بين الأشخاص الذين يتمتعون بقدرات عقلية وجسدية ممتازة، تسمح لأنسالهم بالتطور والتميز في الذكاء والمواهب.
تطور علم تحسين النسل
مع التطور الملحوظ في علم تحسين النسل، تناقلت الدول هذه الأفكار فقد حددت الولايات المتحدة الأمريكية بعض القوانين التي تم إصدارها عام 1882، والتي تنص على استبعاد الصينيين من دخول الأراضي الأمريكية؛ ظناً منهم أنهم يمتلكون نسباً أقل بالذكاء والقدرات الجسمانية، وقد تم تطوير هذا القانون بعام 1924، وهو ما يُعرف بقانون جونسون ريد، والذي وضع بعض القيود على المهاجرين فقد تم منع الهاجرين القادمين من آسيا سوى اليابانيين والفلبينيين وتقليل عدد المهاجرين الأفارقة والقادمين من شرق أوروبا؛ حيث لقي القانون استحسان الكثير من القيادات ونواب الكونغرس.
ولقد تلقت هذه الحراكات التي تبنت هذه الأفكار تمويلاً ضخماً من شخصيات عامة ورجال أعمال لكي يستمروا في الزحف وانتشار هذه الأفكار التي تهدف إلى حفظ العرق الأسمى بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث بدأ بالفعل بالبحث الجاد في سجلات دور الأيتام والمستشفيات النفسية لإبعادهم، وسجلات العائلات المرموقة لتطوير الأنسال بالتزاوج بينهم.
ومن مظاهر تطور الفكر اليوجيني، وما يطلق عليهم باليوجينيين، أصدرت بعض الولايات قرارات وقوانين في عام 1907 بتعقيم بعض الأشخاص من ذوي الأصول الإفريقية والآسيوية بهدف الحد من سلوكهم العدواني والسيطرة على قدرتهم الإنجابية، وبالفعل تم تعقيم عدد كبير من نزلاء مستشفيات الأمراض العقلية قسراً، وعدد كبير من ذوي الأصول الإفريقية وأمريكا اللاتينية والآسيويين، فقد بلغت عدد الحالات المعقمة في هذه الفترة عشرات الآلاف، ومن المذهل أن حركات التعقيم القسري هذه استمرت لعام 2006، وبعض التقارير تشير إلى أنهم مازالوا يمارسون هذا الفعل حتى الآن لمهاجرين تابعين لوكالات خاصة.
تحسين النسل في الحقبة النازية
وتعتبر الحقبة النازية هي أبرز أمثلة التطهير العرقي وتحسين النسل، فقد اعتمد هتلر على بعض النظريات التي تقسم العالم لأعراق، وفي كل عرق صفة تميزه عن الآخر، ليتم نقلها من جيل لآخر وبعض الأعراق بها سمات أفضل من العرق الآخر من وجهة نظر النازيين، فكانوا يرون أن العرق الذي يمتلك هذه الصفات المتفوقة هو العرق الأسمى، ولهذا حدد النازيون بعض الصفات وسموها بصفات العرق الآري، ووضعوهم على قمة الهرم التسلسلي العرقي، واعتبروا العرق المثالي، ومن صفات العرق الآري أنهم ذوو شعر أشقر وعيون زرقاء وجسم رياضي متناسق وطول فارع، حيث تناقلت الإدارات داخل الدولة النازية هذه الصفات لإبرازها بالمجتمع؛ حيث وضعتهم في واجهة الملصقات الإعلانية للدعاية النازية واعتبروا أنهم العرق السامي.
لم يكتفِ النازيون بقتل من هم دون هذه الصفات وحسب، بل أخذوا على عاتقهم حماية الألمان من الاختلاط بالأجناس الأخرى الأقل في الصفات والجسمانية والفكرية ومن هم دون العرق الآري ومن أكثر الشعوب التي كانت تمثل تهديداً خطيراً وواضحاً هو العرق اليهودي، حيث كان يعرفهم النازيون على أنهم جنس طفيلي جاء ليبيد العرق الآري السامي، حاول وقتها النازيون أن يثبتوا مفهومهم عن العرق السامي والعرق الطفيلي بكل النظريات العلمية وتصنيف الأشكال والصفات الجسمانية، ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل، حتى أدت العنصرية والتميز العرقي في ألمانيا لحادثه الهولوكوست الشهيرة وهي عملية قتل جماعي لملايين اليهود أو العرق الطفيلي كما يطلق عليهم النازييون، حيث أرادوا أن يخلصوا ألمانيا من مخاطر تناسلهم كما يعتقدون، وأن وجودهم يشكل خطراً على الأجيال القادمة؛ لذا وجب قتلهم للحد من انتشار عرقهم، فتمت إبادتهم خلال الحرب العالمية الثانية.
إعلان مكتوب عليه: الشخص الذي يعاني من عيوب خلقية وراثية يكلف المجتمع 60.000 مارك-رايخ طوال حياته. زملائي الألمان، هذه هي أموالك أيضاً.
ومن مظاهر التطهير العرقي بعض القرارات التي تم إصدارها في عام 1935 وبموجبها تم تعقيم اكثر من 400 ألف شخص قسراً، من بينهم السجناء وأصحاب القدرات العقلية والجسمانية المحدودة وضعيفي الفكر وأصحاب الأمراض والإعاقات وقتل ما يقارب الـ300 ألف شخص ضمن ما يُسمى ببرنامج القتل الرحيم (تي4).
تحسين النسل في العصر الحديث
في الوقت الحالي، يعتبر علم تحسين النسل موجوداً،ولكن بشكل غير معلن، حيث تتم ببعض المستشفيات بعض التحذيرات والنصائح للأمهات الحوامل في حالات اكتشاف بعض الأمراض العقلية أو الجسدية في الأجنة بأن يتم إجهاض الجنين خوفاً من ولادته ببعض الأمراض الجينية أو العقلية كمتلازمة داون أو القزامة وخلافه ليضعول القرار بأيدي الأمهات في تحديد ما إذا كانت ستستمر بإنجاب هذه الأجنة أو إجهاضها.
كما تعطي بعض المؤسسات والمستشفيات نصائح ومعلومات للأمهات عن كيفية التعامل في هذه الحالات، ولكن بعض الأمهات توافقن على الإجهاض، وبعضهن تمسكن بولادة الطفل مهما كانت حالته، ولكن إذا ما تم السماح بهذا القرار وتعميمه على كل الجهات الطبية والمؤسسات المسؤولة عن الولادة كيف ستتم السيطرة على هذه الحالات التي تدعم إجهاض الأطفال، وهل سيتم تقنين الإجراءات؟
بعض الآراء ترى أنه لو تم استغلال هذا القرار في الاتجاه الخاطئ، فسيتم تنفيذ مخطط اليوجينكسين بفضل تطور هذا العلم أو هذه الأفكار، وهناك مخاوف أن يتم تطويرها؛ حيث تسمح للأغنياء أصحاب السلطة والمال بتنقية عرقهم لينجبوا أولاداً ذيو صفات عقلية وجسمانية راقية ومميزة.
تحسين النسل في ميزان الدين
جاءت الأديان السماوية ومحرمة لتقنيات تحسين النسل، حيث نهى الإسلام عن تحسين النسل، ولكن في بعض الأمور التي تقي الطفل من أمراض وراثية، فهنا اختلف علماء الدين، ولكن الرأي السائد كان بجوازها في أنها ستقي الطفل من الإصابة بمرض خطير أو تحمي الأجيال القادمة، ولكن 'ذا كان تحسين النسل لغرض تحسين شكل أو تحسين قدرة عقلية للجنين، فقد حرّمه الفقهاء والعلماء، لما جاء في سورة آل عمران {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}.
وجاء الإسلام مؤكداً أنه لا فرق بين أسود وأبيض ولا عربي ولا أعجمي، وأن الجميع أمام الله سواء.
وفي المسيحية اختلفت الآراء بين المؤيد والمعارض، حيث إن بعض العلماء المسيحيين تبنوا فكرة تحسين النسل، ومنهم من رفضه رفضاً قاطعاً، حيث ورد عن الأثر أن المسيح كان يمشي بين تلاميذه فرأى رجلاً أعمى منذ ولادته. وسأله تلاميذه، يا حاخام، أخطأ هذا الرجل أو والداه، أنه وُلد أعمى؟".
اعتقد التلاميذ أن الخطيئة تسببت في النهاية في كل المعاناة في العالم، لكنهم لم يفهموا كيف اختار الله السماح للخطيئة بالتأثير على حياة مختلف الناس في حالات مختلفة.
هنا، يتساءلون ما إذا كان الرجل قد وُلد أعمى لأنه أخطأ بطريقة ما أثناء وجوده في الرحم، أو لأن والديه أخطآ قبل ولادته، قال يسوع: "لم يخطئ هذا الرجل ولا والداه، لكن هذا حدث حتى يتم عرض أعمال الله فيه".
يشاع أن الكاتب المسرحي جورج بيرنارد شو قد تعرّض لموقف طريف مع ممثلة فائقة الجمال، حيث عرضت عليه أن يتزوجا لينجبا طفلاً بجمالها، وعقلاً فائق الذكاء منه، ويكون بذلك الطفل المثالي الذي تجتمع به الصفتان الأقوى الجمال الجذاب والعقل الخارق، ولكن رفض شو العرض، حيث قال ماذا لو ورث الطفل شكلي وعقلك أنت؟!
ليهدم بمقولة بسيطة كل أفكار ومزاعم حركة اليوجنكس، التي أبرزها الغرب العنصري، وهدم تمثال المثالية الزائف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.