"بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له، ولا شريك له في الملك، من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية، السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابرته، يُعرف أهالي مصر جميعهم… قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه والقرآن العظيم".
كانت هذه كلمات من نص بيان نابليون بونابارت للمصريين، بداية احتلاله لمصر عام 1798، كما أورده المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار".
بعد جريمة إحراق المصحف أول أيام عيد الأضحى أمام أكبر مسجد في دولة السويد، حيث منحت السويد تصريحاً للمعتدي وحرست فعلته الشنعاء بشرطتها، بل واعتقلت كل من حاول منعه، كما فعلت من قبل مع "سيئ ذكرٍ" آخر، كان من الطبيعي والمتوقع أن يدين ويشجب هذا الفعل كل الدعاة والمشايخ والمؤسسات الدينية، وكذلك حكومات الدول الإسلامية، لكن اللافت كان مشاركة شخص كـبوتين، رئيس دولة مسيحية عظمى، في مظاهر الاحتجاج والتنديد، ليس فقط ببيان رسمي من حكومته، ولكن أيضاً باحتضانه مصحفاً شريفاً في أحد مساجد روسيا، في مشهد "هوليوودي" مؤثر قائلاً: "روسيا تكنُّ احتراماً شديداً للقرآن ولمشاعر المسلمين الدينية، وعدم احترام هذا الكتاب المقدس في روسيا جريمة".
لاقى هذا الموقف تأييداً واسعاً من بعض المسلمين في روسيا وخارجها، الذين وجدوا أخيراً دولةً قويةً تدافع عن قضاياهم.
الحفاوة لم تقتصر على عوام الناس، بل امتدت لمؤسسة الأزهر، الذي أشاد في بيان رسمي بموقف الرئيس الروسي "الشجاع"، ضد الهجمات المتكررة على "الرموز الإسلامية".
ذكَّرني هذا الموقف بما ورد في التاريخ الشعبي المصري عن احتفاء المصريين بانتصارات الزعيم النازي هتلر، إبان الحرب العالمية الثانية، على بريطانيا العظمى حينها، وهي التي سامت المصريين سوءَ العذاب والقتل في ثورة 19 وبعدها، حتى إن مفتي فلسطين حينَها، الحاج أمين الحسيني، زار هتلر إبان الحرب العالمية الثانية، ربما كان للـحسيني وجهة نظر معقولة في تحالفه مع الألمان ضد بريطانيا، التي كانت تحتل بلاده حينها، والتي كانت تدعم عصابات اليهود في عملياتها التخريبية، بعد أن أعطتها وعد "بلفور" المشؤوم، بإقامة دولتهم على أرض فلسطين؛ إذ كان يحاول قدر ما يستطيع الحصول من هتلر على وعد يتضمن حقوق العرب بالسيادة والاستقلال والوحدة، ولم ينجح في ذلك.
لكن ما هي وجهة نظر الأزهر الآن في الاحتفاء بموقف بوتين، الذي قتل طيران بلاده 9 أبرياء في إدلب، قبل "احتضانه للمصحف" بـ4 أيام فقط؟!
هل السويد أكثر عداءً للمسلمين من روسيا؟! افترِض معي أن الإجابة نعم، لماذا إذاً لم تنتفض "الرموز" الإسلامية نفسُها انتفاضتَها عند سحب حكومة السويد لأبناء المسلمين من أهلهم وإيداعهم دور رعاية هي أشبه ما تكون بمعسكرات اعتقال، يتم فيها غسيل أدمغتهم، وأحياناً الاعتداء عليهم جنسياً كما تفيد تقارير إخبارية عديدة، منها سويدية بالمناسبة؟ هل حرق مصحف مكتوب فيه آيات القرآن الكريم التي أنزلها الله عز وجل على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، مطبوع منه مليارات النسخ، أهم من الإنسان الذي يؤمن به؟
ربما لن تجد إجابة شافية عن هذا السؤال، إلا عند الذي نزلت عليه تلك الآيات، في الحديث الذي صححه الألباني، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حين قال: "رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يطوفُ بالكعبةِ ويقولُ: ما أطيبَكِ، وأطيبَ ريحكِ! ما أعظمكِ، وأعظمَ حرمتكِ! والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ، لَحُرمةُ المؤمنِ أعظمُ عند اللهِ حرمةً منكِ، ماله، ودمه". أخرجه ابن ماجه.
إن الإنسان في الإسلام أعظم وأهم من الكعبة التي لا يوجد منها إلا نسخة واحدة فقط، وحفاظ الإنسان على حياته أهم، حتى ولو كان ثمن ذلك هو سبّ الإسلام ونبيه الكريم، عندما اضطر الصحابي الجليل عمار بن ياسر- رضي الله عنهما- أن يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت وطأة تعذيب كفار قريش له، ما كان من الرسول إلا أن قال له "إن عادوا فعُد"، وأنزل الله تعالى قوله: "إِلَّا مَن أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ".
بونابارت وهتلر وبوتين، وربما غيرهم، قَتَلة مجرمون، سفكوا دماء الأبرياء مسلمين كانوا أو غير ذلك، مهما سفكوا، ومهما ادعوا احترامهم للإسلام ورموزه، فإن هذا لن يغير من الحقيقة في شيء.
كرّم الله الإنسان؛ لذا يجب ألَّا تنسحق كرامته تحت وطأة الظلم والجهل، فيعتقد أن مصدر كرامته الوحيد هو الرمز الذي يتبعه، وليست نفسه التي بين جنبيه. ولا يعني هذا بالطبع ألا ننتفض ضد إهانة مقدساتنا بكل ما أُوتينا من وسائل، لكن مع علمنا أن الشيء المقدس الذي أُمرنا فعلاً بالعناية به وحفظ كرامته هو أنفسنا التي بين جنبينا، وأن ما يستحق أن نفديه بالروح والدم هو أيضاً روح ودم آخر.
ربما لم يدرك أغلبنا ذلك، لكن أدركه جندي في جيش المسلمين الذي ذهب لفتح بلاد فارس، حين سأله قائد جيشها عن سبب مجيئهم، فقال: "الله ابتعثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام". الأمر كله متعلق بالإنسان (حريته- رخاؤه – عدالة تحكمه).. هل يذكرك ذلك بشيء؟.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.