تربى عمر بن أبي ربيعة، الشاعر الأموي المعروف، في حضن أمه، التي مات عنها زوجها وترك لها مالاً وفيراً، فجعلته يساعدها في إدارة شؤون البيت والأملاك الموروثة، وكان من نتيجة ذلك أن أتيح له كثرة الاختلاط بالنساء والجواري، من دون حرج أو خجل، فنشأ رقيقاً كالنساء، يحب الجلوس معهن، ويحلو له أن يصف أجسادهن، ويطرب المجالس بالحديث عن مفاتنهن، ساعده في ذلك نبوغه في الشعر، الذي تمحور حول المرأة، حتى لقِّب بالعاشق.
ومن المصادفات العجيبة أنه وُلد في نفس اليوم الذي توفي فيه سيدنا عمر بن الخطاب، فسمي باسمه تيمناً به، ولما رأى الناس سلوكه وميوله حين كبر، قالوا: زهق الحق وظهر الباطل؛ لشعره المتحرر الماسخ.
في تقييم وتقدير البعض أن مثل هذه النوعية من الرجال لا تنصف قضية، ولا يعول عليها في شيء. هذا التقييم الذي لا يلتفت إلا إلى النقائص والعيوب هو السائد في تراث العرب الأدبي والتاريخي، إلا عند نفر قليل، مما أنصف الرجل.
كان منهم الشيخ العلامة الفقيه محمد الأمين الشنقيطي، إذ لما زار بلداً عربياً، واحتفى الناس به، وجلس حوله المثقفون والمهتمون بقضايا الدين والفكر، وسأله بعضهم: ما هو آخر كتاب قرأته؟!
ظانين أنه سيقول كتاباً حول التفسير وعلوم الدين، فإذا به يقول لهم إجابة غير متوقعة.. آخر كتاب قرأته هو "ديوان عمر بن أبي ربيعة". فكانت إجابته صادمة للبعض، إذ كيف يقرأ العلامة الورع، مع ضيق وقته، ديواناً لا يخلو من غزل صريح، وميوعة، ومجون؟
لكن إجابة الرجل -رحمه الله- غير المتوقعة كانت ملهمة لأولئك الذين يحلو لهم دوماً أن يتصوروا الحياة وفق بنيتهم المعرفية، ونفسيتهم الجامدة، كمن يعترض على من يقرأ في حياة الفنانين والممثلين والأدباء والساسة، مهما كانت أفكارهم، للوقوف على طبيعة كل عصر، وفهم كل نفس، وإدراك العلاقة بين مفردات كل زمن، لاستخراج القيم الإنسانية مجردة، ولاستشراف ملامح المستقبل عن وعي.
إن عمر بن أبي ربيعة، مع ما فيه من عيوب ونقائص، لكن ديوانه من المراجع الأصيلة في اللغة، ولهذا كان عبد الله بن عباس يحفظ شعره عن ظهر قلب.
ولأنه كان قريباً من النساء، بدا بارعاً في سبر أغوار المرأة، وتشريح نفسيتها، ويستطيع المتلذذ بالشعر الفصيح أن يقف على طرقه في استرضاء المرأة، وإقناعها بما يريد، فمن خلال قصيدته التي جاء في مطلعها: " ألا قلْ لهند إحرجي وتأثمي، وَلا تَقْتُليني، لا يَحلُّ لَكُمْ دَمي وحلي حبالَ السحرِ عن قلبِ عاشقٍ حزينٍ، ولا تَستَحقِبي قتلَ مسلم".
نجده هنا اعتماده أسس الاسترضاء المرتكز على المبالغة في المدح، والتبرؤ من الذنب، والاستعطاف الطويل المتكئ على السيولة العاطفية التي تتسم بها المرأة، وضعف ذاكرتها، بعيداً عن إقامة الدليل، ومخاطبة العقل بالحجة والبرهان.
إن الأدب والغوص في أعماقه ليس ترفاً كما يعتقد البعض، لكنه قاسم مشترك لدى التجربة الإنسانية بعقدها ونقائصها، لاسيما في عصرٍ تعاظم فيه دور التكنولوجيا، وتسارعت فيه وتيرة المعرفة.
ولئن كان العلم نوراً يزيل الجهل، ويبحث في مختلف تخصصات الحياة ويفك طلاسمها، إلا أنه عجز عن فك طلاسم النفس البشرية، بينما ساهم الأدب في ذلك بنصيب وافر.
من يقرأ الأدب لا يتعصّب، ولا يتكبّر، ولا يقف في زمرة الأغبياء، بل ربما فهم الحياة كما لم يفهمها غيره.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.