في المدخل الشمالي لمدينة آسفي المغربية، ذي الطلّة البانورامية على البحر، والذي يحظى بفرشة مائية باطنية قليلة الغور نِسبياً، وعيون مائية مكشوفة على الشاطئ، توجد عين "لالة ميرة" بأسفل المُنحدر المُحاذي لضريح سيدي بوزيد. وهي منبع مائي طبيعي، عذب، فرات، وغزير دائم الدفق، لا ينضب أو ينقطع ماؤه حتى في سنوات القحط، تجري مياهه بدون انقطاع منذ قرون طوال السنة، يقصده سكان المدينة وزوارها للترويح عن النفس. ولعل موقع العين المُتدفقة من بين الأشجار وسط الأجراف على شاطئ "البْلايا"، كما يسميه سكان آسفي (اسم إسباني)، أو (تفتاست حسب التسمية القديمة، وهو اسم ينحدر من العبارة الأمازيغية "أفتاس"، ومعناها الساحل والشاطئ)"، يُضفي على العين سحراً خاصاً بمناظرها العذراء وهدوئها الأخاذ، حيث تستقطب عدداً متزايداً من المصطافين الذين يفضلونها على الاستحمام الشاطئ، كما يستعمل ماؤها للشرب وتحضير الطعام والشاي، وللناس فيها مآرب أخرى.
فمنذ زمن بعيد، لا يعلم قدره إلا الله، يخرج الماء العذب الصالح للشرب من جوف هذه الصخور الصلبة تحت ظلال فروع شجرة تين برية ضخمة، توفر المأوى والمخبأ للراغبات في غسل أجسادهن بمياه هذه العين، التي كانت قديماً وجهة مفضلة لساكنة آسفي لسقي المواشي وغسل الصوف وتنقية الحبوب وجلب الماء، حيث كان سكان المدينة القاطنون بجوار العين وقت نفاد الماء يضطرون للتنقل إلى العين، من أجل جلب المياه بواسطة أدوات وأوعية خاصة كالجِرار الطينية المحمولة على ظهور البغال والحمير، أو بواسطة السقائين المتجولين ببراميلهم وأوعيتهم المحمولة أو المجرورة بشكل يومي، ذلك أن مدينة آسفي عرفت فترات من الجفاف وشح في الماء، فلم يكن من سبيل لتجاوز كل ذلك سوى اللجوء للوسائل العتيقة كالسواني والبيار أو الاستفادة من ماء المطر أو العيون المائية (عين الغر، عين تكابروت، عين سيدي بودالة، عين الرتم، وعين امباركة، وعيون بوعريس، عين سيكسو، عين الدراق، عين لالة ميرة).
ويبلغ متوسط كميات المياه المتدفقة من العين، بدون الحاجة لمضخات، حوالي 2 لتر في الثانية تنساب في البحر، ويرتفع صبيبها في حالات استثنائية، من جبل شاهق بمنطقة سيدي بوزيد على مدار 24 ساعة دون توقف، تشرب منه وتستحم بمياهه الساكنة، ويقدمه الزوار في قارورات لأفراد أسرهم أو معارفهم قصد التبرك أو العلاج أملاً في الشفاء من الأمراض، وكذلك العَذارى طلباً للزواج، والمتزوجات طلباً للإخصاب والإنجاب، حيث يتم غسل شعرهن ومشطه وترك المشط في عين المكان، في جو احتفالي مفعم بترديد الأغاني الشعبية والزغاريد. ومع دخول فصل الصيف تدفع درجة الحرارة أعداداً من الشباب والنساء إلى ارتياد العين نهاية كل أسبوع، حيث يغتسل فيها الزوار وتسقى منها المواشي. ويقوم كثير من زوارها بالاحتطاب بقطع فروع الأشجار لطهي غذائهم تحت ظلال الأشجار لقضاء نهار جميل وسط غابة من الأشجار بجوار شاطئ البحر.
عين "لالة ميرة" – وسائل التواصل الاجتماعي
ورغم عبث السيول المتكرر في موسم المطر بهذا الموقع وإقبارها للعين وجرفها لغطائه النباتي مرة تلو الأخرى، بسبب وقوعه على سفح شديد الانحدار بهضبة سيدي بوزيد، فإن رواده ومن يؤمن بخوارقه وينتفع بها، كانوا يلجأون إلى النبش عن العين الجارية وتهيئة المكان من جديد للزيارة. كما تجد النساء في الخروج إلى منتزه سيدي بوزيد واللوذ بموقع "لالة ميرة"، فرصة للتخلص من متاعب البيت إلى حين، بإمضاء يوم مريح وبهيج، يقضينه وسط مياه رقراقة وخضرة ساحرة، مع التفرج على زرقة البحر وأمواجه الهادرة وأفقه البعيد اللامتناهي، ومنهن من تهيئ وسط هذا الجو الشاعري والاحتفالي كؤوساً من الشاي ويتبادلن بينهن أصنافاً من الحلوى الآسفية الأصيلة، بل ومنهن من تقضي نهار يوم الأربعاء بكامله بهذا الموقع، فيعملن تحت ظلال الأشجار على إعداد أكلات تقليدية، مثل الكسكس والطواجين الشهية.
طقوس غريبة وأساطير حول عين لالة ميرة
وقد ارتبطت عين "لالة ميرة" بطقوس غرائبية وأساطير، لذلك نجد بعض النساء يَلجأن للعين، فيمكثن بها لساعات، وكأنهن في مَشْفى عمومي، بعد أن يَئسن من الاستحمام بسبع أمواج، وجلسات التبخر باللدون، بحثاً عن شفاء مزعوم، حيث يتلون أقراحهن، بعد أن أعجزتهن الحيلة في نيل حق مسلوب، أو طرد النحس والتابعة، أو التخلص من مرض، أو التوجس من تقدم العمر، والبحث عن عريس طال انتظاره. وأكثر من يلجأ إلى عين "لالة ميرة" هم أولئك الذين يعانون من علة مرضية، حيث يعتقد البعض أن كل ما ينتسب إلى العين يتميز بقوة خارقة، مثال ذلك الأشجار والنباتات القائمة بحنبات العين، أو ثمارها، أو الحشائش المحيطة بها، والمياه والأحجار، ومضغ ثمار وأوراق الأشجار المحيطة بها وشرب منقوعها، حيث إن المريض الزائر للعين يأخذ من هذه الأشياء للانتفاع منها في العلاج، كما أن المريض قد يستخدم أعواد الأشجار النابتة قرب العين، أو الصخور، أو ماء العين، أو حتى ماء البرك المتجمعة بجوارها في غسل الأجزاء المريضة، أو الاستحمام أو غير ذلك من الاستخدامات "الطبية" المزعومة.
روايات متضاربة حول أصل تسمية عين لالة ميرة
ويستوقف اسم عين "لالة ميرة" ساكنة المدينة وزوارها، ومن يسمع به أحياناً. ويحرص البعض على معرفة معنى هذا الاسم طلباً للمعرفة واستكمالاً لمعلوماته عنها، أو من قبيل الفضول. فهناك عيون مائية بالمغرب لا خلاف على تسميتها، وهناك أخرى تعرف غموضاً حول تحديد سبب تسميتها، ومن ذلك عين "لالة ميرة".
لالة أو لالا أو للا: حسب الثقافة الشعبية المغربية، لا يذكر الأولياء والصلحاء، إلا مرفوقين بعبارة (سيدي) أو "ستي" أو "دادا" أو (لالة). لذلك نجد هذه التسمية حاضرة بقوة في عدد لا يحصى من الأماكن والجبال والعيون التي سميت بأسماء الوليات الصالحات، فهن في نظرهم شريفات يبسطن بركاتهن حتى بعد وفاتهن وانقطاع عملهن. وفي العيطة والأغاني الشعبية يلاحظ كذلك الحضور المكثف لتيمة الأولياء والصالحين كلازمة، حيث تتكرر باستمرار عبارة "ألالة زوروا الصالحين". ويزخر التاريخ بالعديد من النساء اللائي يحملن لقب لالة / لَلّا، نظراً لدورهن الفاعل وعملهن الجليل في المجتمع.
كلمة لالة أو لالّا أو للا، لفظة تستخدم للتوقير والاحترام وتقال للنساء وتعني: سيدتي أو مولاتي. وتستخدم كلقب رسمي لجميع ربات الملوك العلويين ولأميرات المملكة المغربية. ومن طرائف هذا الاسم أنه يستخدم أيضاً للمناداة على أي امرأة جهل اسمها.
وتتداول عدة روايات حول أصل "لالة ميرة"، ومنها رواية تفيد بأنها امرأة كانت بالفعل موجودة وهي مدفونة في مكان ما، من هذا السفح أسفل ضريح سيدي بوزيد، كان لها في الماضي ضريح معروف، لكنه تهدم وهوى في البحر بفعل السيول الجارفة، التي تعظم في فصل الأمطار، وتضيف أنه لم يبقَ من آثارها سوى العين الجارية، مردفة أن هذه المرأة كانت في حياتها ولية صالحة، جاءت من أرض غير معلومة وقصدت هذا المكان بقصد الخلوة والتهجد، بعدما سمعت أن أرض آسفي هي أرض علم وجهاد وتصوف.
بينما تعدها رواية أخرى من أهل الجن، فتزعم أنها " جنيه بالليل وامرأة بالنهار"، وهذه الرواية هي أكثر الروايات شيوعاً وتداولاً في الأوساط الشعبية في آسفي وعبدة . ولا يقتصر الاعتقاد بوجود جنيات في المياه هنا فقط، حيث كان الهنود الحمر في أمريكا الشمالية يعتقدون أن الجن يسكنون قرب مصب نهر الأمازون، كما يعتقد بوجود جني في هيئة وحش يسكن في بحيرة لوح نس في اسكتلندا، وهي أكبر بحيرة مياه عذبة في بريطانيا. ومن أهم الأسباب التي تحمل الناس في المعتقد الشعبي المغربي على الاعتقاد بأن نبعاً معيناً مسكوناً هو وجود النبع في مكان مهجور، وألا تصل أشعة الشمس إلى مصدر النبع. وبالتأمل بوضع عين "لالة ميرة" التي تدور حولها القصص والأساطير نجد أن ينبوعها يمتاز بالعمق، وصعوبة وصول الشمس إلى ثغره.
وبمزيد من البحث، وجدت في المغرب نساء صالحات حقيقيات بهذا الاسم، ومنهن لالة أميرة بنت الفقيه المجاهد العياشي، التي يوجد قبرها في ضريح سيدي عبد القادر الحراثي على ساحل مدينة سلا، كما وقفت في المعتقد الشعبي المغربي تفصيلات أخرى، تزعم أن اسم " لالة ميرة" يطلق على "جنيات" كثيرات، وقد تفنن المخيال الشعبي في وصفهن.
ونكاد لا نعثر على ما يُشْفي الغليل ويُميط اللثام عن لغز شخصية "لالة ميرة" التي حولتها الأسطورة الخرافية الشعبية بآسفي إلى عين ماء مقدسة تحرسها ولية مزعومة، لا ضريح لها، ولم يَدّع الانتساب إليها أي أحد على غرار باقي الأجداد الروحيين للشرفاء الموجودين بآسفي.
تفنن البسطاء من الناس بآسفي في نسج أحداث وخوارق حول العين التي تحمل اسمها، فشُدت إليها الرحال من كل صوب، معتقدين أن العين تحرسها ولية صالحة على ساحل المحيط الأطلسي، يعتقد أنها واحدة من الوليات المنسيات التي اندرس قبرها منذ قرون خلت، حيث غالباً ما كانت الأضرحة الخاصة بالنساء تنتهي إلى خانة النسيان، علماً أن النساء الوليات تمتعن بمكانة اجتماعية لا تقل أهمية عن تلك التي اكتسبها المشاهير من نظرائهن الرجال، حيث يوجد بالمغرب فقط 150 ولية موزعة على التراب الوطني، واتفق كاتبو السّير دائماً على تخصيص بضعة أسطر للنساء الوليات في أعمالهن ولم يعترفوا لهن في الغالب بقدسيتهن إلا إذا كن أمهات لولي صالح.
وهذا ما يُعَزز الغموض الذي يلف تسمية العين والولية المزعومة، بحيث لم نهتدِ إلى معرفة تاريخ اكتشاف هذه العين ولو على نحو تقريبي رغم ما بذلناه من جهود، فهي قديمة قدم المدينة نفسها الضاربة في أعماق التاريخ.
وتروج في هذا الصدد أقاويل وروايات مختلفة تفيد بأن هذا الاكتشاف موغل في القدم، حيث لعبت العين دوراً هاماً في تحديد أماكن الاستيطان القديمة الأولى بالمدينة، بالنظر لاستخدام مياهها في الشرب والزراعة منذ القديم.
وعموماً يمكن أن نعتبر عين "لالة ميرة" عيناً نُعتت باسم مقدس، شأنها في ذلك شأن عيون مائية أخرى ارتبطت بأسماء وليات مثل: "عين للا حية" (أولماس)، "عين للا ينو (طنجة)، "عين للا تاكركوست" (أمزميز، ناحية مراكش).
وبالرغم من أهمية وشهرة عين "لالة ميرة"، فإنها لم تحظَ بالرعاية والاهتمام المناسبين، ما يؤهلها لتمثل مصدر دخل جديداً لها أو تنشط حركة السياحة بالمدينة. فلم يُسعفها موقعها الإيكولوجي الأخّاذ على منتزه سيدي بوزيد الذي جمع الحُسن من أطرافه، خضرة الطبيعة في محيطه ومنحدره، وسحر المحيط الأطلسي بلونه الفيروزي، في لفت انتباه القيّمين على الشأن المحلي والإداري والسياحي، لتنزيل مشاريع بُنى تحتية تسهم في تحويلها إلى وجهة سياحية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.