"ربما كان خطأه الأكبر هو تجاوزه حدود الوادي والدخول إلى منطقة خطرة بعيداً عن قبيلته. حيث لم يكن خطر السير وحيداً بالغابات شيئاً يُذكر أمام خطر "الآخرين"، أولئك الذين يعيشون في التلة أعلى الوادي. في البداية، كان هناك اثنان منهم، حاولَ المقاومة، ولكن أربعة آخرين اقتربوا من خلفه وحاصروه. ثم تركوه هناك لينزف حتى الموت، ثم عادوا بعدها لتشويه جثته. في النهاية، قُتل في ذلك اليوم 20 فرداً، واستولى "الآخرون" على الوادي بأكمله".
لم يكن سارد هذه القصة صحفياً ما ناقلاً حادثة لفقر مدقع في إفريقيا، أو مراسلاً ينقل أحداث جريمة اعتداء وحشي لشرطة أمريكية على السود، بل كان عالم الأنثروبولوجيا في جامعة ميتشيغان جون ميتاني.
بالإضافة لذلك، لم يكن مجرمو أو ضحايا هذه المأساة بشراً على الإطلاق بل كانوا قرود شمبانزي في حديقة وطنية في دولة أوغندا.
على مدار عقد من الزمن، قام ذكور الشمبانزي من مجموعة واحدة بقتل كل ذكر جار لهم، وقاموا بخطف المتبقي من الإناث وتوسيع أراضيهم. ولم تكن هذه العينة الأولى أو الأخيرة لمثل هذا النوع من الذكور، فخلال دراسة في عام 2014 وجد أن قرود الشمبانزي عرضة بنسبة 30 مرة لقتل شمبانزي من مجموعة مجاورة بدلاً من قتل شمبانزي من مجموعتهم الخاصة. بل والأكثر من ذلك أنه في المتوسط يتآمر ثمانية ذكور لمهاجمة الضحية.
حين ننظر لهذه الدراسة بعناية وتأمل، ربما سنتعجب من هذه الطبيعة العنيفة لقرود الشمبانزي تلك، كيف يُمكن أن ترتكب هكذا جرائم في عالم الحيوان بهذا الشكل "الآدمي" المنظم؟
نتشارك نحن البشر 98.8% من حمضنا النووي مع الشمبانزي، ونقسم العالم أيضاً إلى "نحن" و"هم"، ونذهب إلى الحرب من أجل هذا التمييز بين "نحن" و"هم".
لكن ما يميز البشر أنهم لا يَقتلون أو يُقتلون فقط بسبب تخطي حدود الجغرافية ولكن أيضاً بسبب أفكار تجريدية مثل الأيديولوجية والدين والقوة السياسية والاقتصادية.
بل يتخطى الجنس البشري حدود الخيال في قدرته المدمرة على تطبيق هذا العنف، لكن للإنصاف يتوازى بنفس الدرجة مع قدرتهم على تغيير سلوكهم.
فعلى سبيل المثال، يمكن أن ندعي أن اليابان خلال الحروب الماضية كانت الأكثر وحشية، بينما اليوم هي من أقل دول العالم في معدل الجريمة.
بينما روعتنا قصص شعوب الفايكنج الاسكندنافية بأبشع المجازر والحروب الإنسانية وهم يندفعون في حملات عبر أوروبا بينما كانوا بينهم يزرعون ويتاجرون مع بعضهم البعض، واليوم يشهد التاريخ المعاصر لتلك البلاد بكونهم ذروة الرقي والتقدم الحضاري والتنمية المستدامة.
بنظرة تحليلية بسيطة للأمر، يمكن أن نرى ما نتشارك به مع قرود الشمبانزي، إذ تميز أدمغتنا بين أفراد المجموعة / القبيلة / العرق و"الآخرين" في جزء من الثانية فتُشجعنا أدمغتنا على أن نكون لطفاء مع أفراد مجموعتنا ومُعادين للآخر.
لكن بمنظور آخر، يمكن للبشر كبح جماح غرائزهم وبناء مجتمعات أوسع من مفهوم القبيلة، كالدول على سبيل المثال، فيتحول هذا التنافس الجماعي إلى ساحات أقل تدميراً.
رغم ذلك تستمر الأسس النفسية للقبيلة، حتى عندما يفهم الناس أن ولاءهم لوطنهم أو لون بشرتهم أو إلههم أو فريقهم الرياضي هو أمر عشوائي لا دخل لهم فيه، لا يتعدى رمية عملة أو نرد في الهواء بعشوائية، فجرّب أن تسافر لبلد آخر لتفهم احتمالية أن "نحن" اليوم هي "هم" الغد والعكس.
وهذا ما يعطينا مفتاحاً للإجابة عن سؤال بسيط هل مفهوم "القومية" هو شيء هادم أم بنّاء؟
رغم أن القومية جزء منها شعور نفسي فهي مفهوم غير مستقر، في أفضل حالاتها، يمكن أن تساعد في نشوء حالة من التضامن العام بين عدد كبير من البشر في حيز معين تحت شعارات عديدة، بهدف التنظيم، فتكون الداعم لإنشاء نظام يشمل الرعاية والعناية لمجموعة من البشر المقيمين في ذلك الحيز دون أي تمييز.
ولكن هنا يمكن أن تعود النفسية القبلية التي ذكرنها مسبقاً؛ نظراً لأن هذا التضامن قد يتم بناؤه تاريخياً على أساسات وخرافات عرقية ليست له أي معنى.
فتتحول القومية المدنية من دفع الضرائب بسرعة إلى شيء أكثر قتامة، فنرى كراهية تبيح الدماء بحجج واهية وأشكال متنوعة، ولن نبتعد كثيراً لجلب الأمثلة، فنرى ما تفعله قوات الاحتلال الإسرائيلي في الفلسطينيين وسياسات الفصل العنصري، أو ما فعلته القومية النازية في ألمانيا ضد الأقليات والمعاقين.
ورغم كل التطور والتحضر التي وصلت له البشرية اليوم، تعاود القومية القبيحة الظهور بقوة في جميع أنحاء العالم، بداية من أوروبا رمز التحضر في الشمال إلى دول الجنوب، مدفوعة من قبل القادة السياسيين الطامعين في السلطة، مستغلين إما غضب، أو طمع، واحتياج بعض الشعوب لتأجيج الحس القومي السام.
لذلك، يتضح أن التعصب القومي شيء في غاية السخف، لذا يجب علينا كبشر بالضرورة أن نكون قادرين على تفكيكها أو حتى على الأقل احتوائها.
فغالباً ما تُغذي القومية شعوراً بالفخر والانتماء الزائف، ومن خلال الاعتراف بطبيعة القومية وإدراكها، نفتح الباب أمام فهم أكثر تعقيداً لهويتنا البشرية وترابطنا كمجتمع عالمي.
علاوةً على ذلك، أظهرت الأبحاث العلمية في علم الأعصاب أن المخ البشري يتميز بقدرة بارزة على التشكيل فيما يُعرف علمياً بـ اللدونة العصبية، أي أن العقل البشري قابل للتكيف وتغيير الأفكار والمواقف والسلوكيات، ما يؤكد على وجود فرصة لتحدي وتجاوز حدود القومية الضيقة.
بالتالي ربما تسنح لنا فرصة لإعادة تعريف هوياتنا بشكل أكثر إنسانية بعيداً عن تعريفات القومية المصمتة، فتَبَنِي رؤية أوسع لتواصلنا كبشر من خلال تعزيز التعاطف والرحمة والتفكير النقدي. حينها يمكن تخيل فخراً بشرياً لا ينبع من قدرة على تحشيد جيوش أو امتلاك رؤوس نووية قادرة على تدمير الكوكب بأكمله، ولا من فخر زائف بتجانس عرقي مصاحب لممارسات تطهير أو فصل عنصري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.