يُروَى هذا المَثَل في كُتب الأمثال وفي مصادر اللّغة والأدب، بصيغ مختلفة، ولكنّ هذه الصّيغة: (الصَّيفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَن) هي التي اشتهرت وأصبحت كثيرة التّداول والاستعمال.
وهناك اختلاف أيضاً في تحديد أصل المَثَل وقصّته وسبب قوله. ولكنّ المشهور، في هذا الأمر، أنّه قيل في امرأة تُدْعَى دَخْتَنُوس بنت لَقيط بن زرارة، وقد كانت زوجة لعمرو بن عُداس، وكان شيخاً كبيراً وأكثرَ قومه مالاً.
ولكنّه كان رحيماً بها كريماً في معاملتها، وكانت منعَّمةً في بَيْته لا ينقصها شيء من الطّعام والشّراب واللّبن. ولكنّ دَخْتَنُوس لم تُقابل ما كانت فيه من نعمة ويَسار بالشّكر والامتنان، بل أعرضت وجَحَدت بهذه النّعمة إلى حدّ كُرْهها لزوجها، فكانت العاقبة طلاقَها. ثمّ تزوّجت رجلاً آخر وكان شابّاً، ولكنّها لم تجد معه طِيب الرّزق وحُسن المعاملة وجميل الإكرام الذي كانت تَحظَى به في مَعيَّة زوجها الأوّل عمرو بن عُداس.
وحين أصابها هي وأهلها الجَدْب أرسلت إلى زوجها الأوّل تطلب أن يَسقيها لبناً، وحين عَلِم بأمرها أجابها قائلاً: (الصَّيفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَن). وإنّما خَصّ الصَّيف لأنّ طلبها الطّلاق كان في الصَّيف، تذكيراً لها بالنّعمة التي فَرَّطت فيها وضيّعتها ولم تَرْعَها. وقد أصبح هذا القول يُضرب مثلاً لكلّ مَنْ يُفرّط في الحاجة وهي ممكنة ثم يَطلبها بعد فَواتها، أو مَن أضاع الفرصة وفرّط في الغنيمة.
فصل الصّيف: موسم الرّاحة والاستجمام
فصل الصَّيْف هو أحد فُصُول السّنة، ويَعْقب فصل الرّبيع. والصَّيْف مصدر من فعل: صاف اليومُ يَصِيف أيْ اشتدّ حَرُّه. وهناك اختلاف في تحديد زمنه على حَسَب المناطق والأقاليم والثّقافات.
ولكنّ الغالب أنّه يبدأ من الانقلاب الشّمسي الصّيفي يوم 21 يونيو الذي يحدث في نصف الكرة الأرضيّة الشّمالي حتى الاعتدال الخريفي يوم 22 أو 23 سبتمبر.
وموسم الصَّيْف، بطبيعته، ثقيل على النّفس لحرارته؛ لأنّ الطّاقة الشّمسية تكون في أَوْجها، وهو موسم يتميّز بقِصر لَيله وطول نهاره. ولا تَتأذَّى السّاعة البيولوجيّة في مَوسم كما تتأذَّى في فصل الصّيف؛ لأنّ غالبيّة النّاس لا يَقدرون على ضَبط نظام حياتهم في هذا الموسم، تَبَعاً لما كان عليه فيما مضَى من المواسم والشّهور.
ولكنّ الصّيف، بعد هذا أو رغم هذا، له ميزته من بين سائر المواسم، وله معنى خاصّ عند معظم النّاس، ومكانتُه عندهم لا تَحظَى بها سائر المواسم الأخرى والشّهور.
وسبب هذه المَزيّة التي يَحْظَى بها فصل الصّيف أنه أشبه بالمحطّة الأخيرة في قطار الحياة السّنويّ التي يتطلّع إليها كلّ الرّكاب ويَستعجلون اقترابَها وأَوانها لينزلوا من هذا القطار، الذي رَجَّهم رَجّاً وأَرهقهم رَهقاً، وأَتْعبهم وأنْهَكهم وضَغَط أعصابهم وحَمّلهم، شهوراً طوالاً، ما لا يُطيقون.
يَستعجل معظم الناس قدوم فصل الصّيف إذاً، ويَهَشّون لقُرْبه لينزلوا من قطار الحياة السّنويّ، ويَتَرجَّلوا قليلاً، ويتخلّصوا من بعض الأعباء ويتخفّفوا من بعض التّكاليف. والصّيفُ بهذا المعنى، حَبيبٌ إلى النّفس، لذيذٌ إلى القلب؛ لأنّه موسم الرّاحة والاستجمام والتّنقل والتّرحال والدَّعَة والسّكون والتّخفف والغَفلة والفرحة والانطلاق.
تتذوق النّفس فيه بعضَ حقوقها من الرّاحة والهدوء حين تتخفّف من بعض القيود والالتزامات، فتَسْتَعيد اتِّزانها، وتَستدرك ما فاتها من مُتعة ولذّات.
ولكنّ فصل الصّيف، بسبب طبيعته الخاصّة التي سبق بيانُها، قد يَجْني على صاحبه، فيكون فصل الخسارة والضَّياع والفَوْت والفَقْد والحَسرة والنّدم. فَليَحرص العاقل على تحقيق التّوازن والاعتدال في هذا الفصل، حتّى لا يَكون حاله شبيهاً بحال دَخْتَنُوس بنت لقيط بن زرارة التي ضَيَّعت في الصَّيف اللّبن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.