تعتبر أنقرة والقاهرة وطهران "الأركان الرئيسية" للشرق الأوسط، حيث يلعبون دوراً حاسماً في تشكيل المنطقة على مدى العقود القليلة الماضية، كانت هذه المراكز الثقيلة دائماً في قلب التطورات الهامة التي تؤثر في المنطقة، حيث يوفرون الاستقرار والتوازن والقوة للمنطقة بشكل عام.
إذ إن تاريخهم العريق والثقافة الغنية والتجارب المتشابهة تعزز هذا الدور المهم الذي يلعبونه في تشكيل المستقبل السياسي والاقتصادي والثقافي للشرق الأوسط.
على الرغم من التركيز المفرط في العصر الحالي على القوة الاقتصادية، إلا أن القوة السياسية تظل تلعب دوراً حاسماً في النهاية. وتشمل هذه القوة العديد من العوامل، مثل الهياكل المؤسسية، والتقاليد، والثقافة السياسية، والقوة الدبلوماسية، والسكان، وأخيراً القوة العسكرية.
إذ يمكننا أن نرى دولاً مثل دول الخليج لا يزال لديها عيوب تتعلق بنقص القدرة المؤسسية، والتي يجب تحويل قدراتها الاقتصادية إلى قدرات سياسية، ومع ذلك، أعتقد أن المملكة العربية السعودية ستحقق تميزاً في المستقبل، خاصة مع زيادة التواجد الصيني في المنطقة.
وجود ثلاث دول كبرى في نفس المنطقة يعني وجود ثلاثة ادعاءات للهيمنة المتنافسة، لذلك، فإن وجود مسافة معينة بين الأطراف الثلاثة دائماً أمر لا مفر منه، وهو ما يدعم إقامة علاقات متوازنة بين الأطراف الثلاثة ضرورية لاستقرار المنطقة.
فعلى سبيل المثال، لم تكن المسافة بين تركيا وإيران مفتوحة إلى حد التماهي، فخلال أشد فترات الصراع في الحرب السورية، دعمت كل طرف تماماً الجانب المعاكس بينما استمرت الآليات السياسية والاقتصادية في العمل.
إن تدهور العلاقات بين تركيا ومصر وبين مصر وإيران استمر لفترة طويلة وأثر على سياسات دول المنطقة.
لكن في الآونة الأخيرة، حدثت تطورات ملحوظة في العلاقات بين تركيا ومصر، فقام وزير الخارجية السابق مولود جاووش أوغلو بزيارة إلى القاهرة في 18 مارس/آذار الماضي، وتم تعيين السفراء المتبادلين، وأخيراً زيارة الرئيس المصري المقررة في 27 يوليو/تموز القادم إلى أنقرة، تعد مؤشرات واضحة وملموسة لتحسن العلاقات بين البلدين.
نظرة تاريخية على توتر العلاقات الإيرانية – المصرية
أما عن العلاقة بين مصر وإيران فقد بدأت القطيعة بين طهران والقاهرة عام 1979 بعدما أعطت مصر حق اللجوء للشاه الإيراني المخلوع محمد رضا بهلوي، ومن ثم أخذت العلاقات بالتدهور أكثر فأكثر بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، التي أدت إلى اعتراف أول دولة عربية بشكل رسمي بإسرائيل.
تبع هذا، دعم القاهرة لبغداد في الحرب الإيرانية العراقية ما أدى إلى أزمة حقيقية بين مصر وطهران كان من الصعب التوقع بوقت انتهائها آنذاك.
وفي عام 1981، سمّت السلطات الإيرانية أحد الشوارع في طهران باسم خالد الإسلامبولي الذي اغتال الرئيس المصري أنور السادات وطبعت طوابع باسمه، وتزينت واجهة مبنى رسمي في طهران بصورته.
ولعل أحد أهم أسباب استمرار تدهور العلاقات بين إيران ومصر لمدة طويلة هو تأثير الثنائية الأمريكية-الإسرائيلية على مصر. بينما كانت نقطة القارب الوحيدة خلال الـ40 عاماً الماضية تقريباً على خط طهران-القاهرة، كانت التطورات الإيجابية القصيرة التي تحدث أثناء فترة رئاسة الرئيس الراحل محمد مرسي، وهي ربما كانت فترة تحجيم تأثير الولايات المتحدة وإسرائيل على الحكومة المصرية.
فكان مرسي أول رئيس مصري يزور طهران بعد الثورة الإسلامية بعدما زارها عام 2012 للمشاركة في مؤتمر عدم الانحياز، ليقوم الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بعد ذلك بزيارة مصر، وبذلك أصبح أول رئيس إيراني يزور مصر بعد الثورة عام 1979.
ومع بدء تحسن العلاقات الإيرانية المصرية آنذاك بدأ الحديث عن خطط لعودة السفارات المشتركة في البلدين، إلا أن الأمر لم يتم بسبب الانقلاب العسكري في مصر عام 2013.
في الأشهر الأخيرة، وبعد فترة طويلة من الانقطاع، عادت مسألة توطيد العلاقات بين طهران والقاهرة إلى الواجهة، جرت محادثات بين كبار المسؤولين الإيرانيين والمصريين بوساطة عراقية-عمانية.
ما الذي يدفع الدولتين إلى تطبيع العلاقات الثنائية بينهما؟ ولِم الآن؟
الإجابة عن هذه الأسئلة يمكن ربطها بعملية التطبيع العامة التي شهدتها المنطقة منذ عام 2020. إذ تجري عمليات تطبيع بين تركيا والسعودية والإمارات ومصر وسوريا.
كما تعمل إيران على تطبيع علاقاتها مع السعودية. وهناك عمليات تطبيع تحدث بين قطر والسعودية والإمارات ومصر. جميع هذه التطورات تشير إلى أن المنطقة تأخذ وضعاً مغايراً وأهدأ.
تتشابه بدايات التطبيع بين إيران ومصر ببدايات التطبيع بين إيران والسعودية، وكما لعبت سلطنة عُمان دور الوساطة بين الرياض وطهران تلعبها الآن بين القاهرة وطهران، وبهذا ربما تنتهي واحدة من أقدم الصراعات في الشرق الأوسط.
ويجدر الإشارة هنا إلى تأثير التواجد الصيني، إذ إن الاتفاقات التي أبرمتها دول المنطقة مع الصين والمشاريع الضخمة التي وقعوا عليها، جعلت الصين بالفعل واحدة من أهم اللاعبين في الشرق الأوسط، والدول في المنطقة تسعى من خلال التشكيلات مثل منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة بريكس إلى تحقيق موقف توازني يعتبر تحدياً لهيمنة الولايات المتحدة.
وهذا ما يلقي احتمالية تواجد الصين لرعاية هذا التقارب بين إيران ومصر، كما فعلت إبان المصالحة الإيرانية السعودية.
ومن المتوقع أن تنضم إيران والمملكة العربية السعودية قريباً إلى مجموعة بريكس، فقد أصبحت إيران عضواً كاملاً في منظمة شنغهاي للتعاون، وانضمت السعودية أيضاً إلى هذه التحالف في شهر مارس الماضي كـ "شريك حوار". كل هذه التطورات تشير إلى زيادة وتعزيز النفوذ الصيني واستراتيجيته في فرض الهيمنة بسلاسة، وهو ما يوضح أيضاً كم التحديات التي تواجهها الهيمنة الأمريكية في المنطقة.
وأعتقد أن مصر في الآونة الأخيرة أصبحت مدركة لموقفها إبان هذه التغيرات الحاصلة في المنطقة وتتابعها بعناية، لذا تسعى للتحرر من تحالفاتها الحالية أو على الأقل كسب تحالفات جديدة تكسبها مصالح أكبر تعود عليها بالنفع.
إن تحسّن العلاقات بين طهران والقاهرة سيؤثر على الاقتصاد والسياسة الإقليمية بوجه عام، وما سيعزز الاستقرار في المنطقة هو استمرار مشروع تحسين العلاقات بين الدول الثلاث العريقة في المنطقة وهي مصر وتركيا وإيران.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.