في عام 1995 داخل مدينة صغيرة تدعى سربرنيتسا في جمهورية البوسنة والهرسك قتل 8372 إنساناً، 8372 حلماً تم إطفاؤه في غضون بضعة أيام فقط.
تخيل أن تحاول أن تذكر أسماء هؤلاء الأشخاص! لقد قمنا بذلك، استغرق ذلك 11 ساعة و58 دقيقة و30 ثانية تماماً. كل اسم هو رقم، تخيل أنك تكتب الأرقام واحداً تلو الآخر، ستشعر يدك بالتعب وترغب في أخذ قسط من الراحة.
أتساءل: تتعب يد المرء من الكتابة؟ لكن ألم تتعب أيديهم الملطخة بالدماء من قتل هؤلاء الأبرياء؟ ألم يترددوا؟ ألم يفكروا في كم حلماً، وقلباً، وعائلة يقتلون؟ ألم ترتجف قلوبهم عندما عصبوا أعينهم وأطلقوا الرصاص على رؤوسهم، أو عندما كانوا يحملون جثثهم، ويقولون: "دعونا لا نهدر الرصاص عليهم، فلنقطع أعناقهم بالسكين"؟
لقد كنا مذنبين في أعينهم، كنا مذنبين لأننا فقط مسلمون، أظهرنا لهم الثقة بكل براءة، لأننا صدقنا أننا متساوون، وثقنا بهم، وصدقنا أنهم يؤمنون بسنوات عشناها معاً على تلك الأرض، لأننا قلنا "إنهم لن يفعلوا بنا ذلك!".
منذ 28 عاماً عُرفت سريبرينيتسا بأنها المدينة "الأكثر حزناً" في البوسنة، بدأ كل شيء في 11 يوليو/تموز عندما دخل راتكو ملاديتش، المعروف باسم "الجزار الصربي"، إلى مدينة سريبرينيتسا، التي أعلنتها الأمم المتحدة منطقة آمنة، مع جنوده المسلحين قائلاً: "لقد حان الوقت أخيراً للانتقام من الأتراك في هذه المنطقة".
ومن ثم بدأت الكوابيس في ذلك اليوم، فُصلت النساء عن الرجال، ووضع جميع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و77 عاماً في حافلات، ولم يعودوا أبداً إلى اليوم.
تعرضت آلاف النساء للاغتصاب، وفُصل الأطفال عن أمهاتهم، بينما نفذوا أعمالاً مهينة للشرف لجميع الرجال الذين أخذوا. وأجبروهم على غناء الأغاني الصربية القومية، وأُجبرواهم على ارتكاب فظائع مثل التشويه والعنف الجسدي والجنسي وقتل بعضهم لبعض، لدرجة كان عليهم حفر مقابر جماعية ودفن أحبائهم في تلك القبور.
حاول بعض الرجال الفرار عبر الجبل والغابة، تمكن البعض من الفرار واستعادة حريتهم، بينما لفظ بعضهم آخر أنفاسه في الطرق الوعرة.
اليوم ذكرى المجزرة البشعة، أريد أن تتخيلوا أباً عاجزاً ، اضطر أن ينادي ابنه إلى جانب الصرب، بعد أن كان مختبئاً في الجبل، وبعد أن وثق في رحمتهم الزائفة تم تمزيقهم وقتلهم معاً بدم بارد.
تخيلوا معي أماً فصلوها عن ابنها البالغ من العمر 14 عاماً، وهو يقول لأمه: "خذي حقيبتي، وانتظريني سأعود"، ولم يعد إلى اليوم.
تخيلوا امرأة أنجبت لتوها طفلاً ميتاً لأنها كانت تبكي من الجوع.
جربوا أن تفكروا في أم، ألبست ابنها ملابس نسائية حتى لا يأخذوه منها، ومع ذلك أخذوه وقتلوه وحيداً.
فكروا في الآلاف من الآباء والأزواج والأطفال، يؤخذون إلى مكان ما ويعرفون أن نهاية هذا الطريق هي الموت، كيف نظروا للحياة؟ كيف نظروا لألوان الشجر حولهم أو للون السماء؟
فكروا في آلاف الأمهات والزوجات والبنات الذين ما زالوا ينتظرون بيأس عودة الغائبين، حتى ولو بقايا عظام لا تشعر بالعالم حولها.
ضعوا أنفسكم اليوم في مكانهم لدقائق فقط أو لثوانٍ، لا يهم..
ضعوا أنفسكم مكان أم فقدت 5 أبناء، وبعد أن عثرت على عظامهم متحللة في إحدى المقابر شاهدت على التلفاز كيف قتلوهم بوحشية وهمجية.
ضعوا أنفسكم مكان النساء اللواتي ينتظرن كل عام حتى يتم العثور على عظام أولادهن وأزواجهن، أمهات كل ما يتمنينه في الحياة أن يجدن عظام أبنائهن فقط ليصلين عليها ويضعن الورد، تخيل أن تلك الأمهات ربما يغادرن الحياة دون رؤية قبر أولادهن وغسله بدموعهن.
إن كل كلماتي هنا لا لجلب الشفقة أو الاستعطاف، فأمام المآسي لا تغني ولا تفيد. كلماتي لوصف شعور يعيش به كل الشعب البوسني إلى اليوم، وربما للأبد.
اليوم سوف تبكي سريبرينيتسا، كما هو الحال في كل عام، وسنعزف مقطوعة جحيم سريبرينيتسا كما نعزفها كل عام، وسنغرق في دموعنا كما اعتدنا، وسنصلي لأجل شهدائنا حتى وإن لم نجد بعض قبورهم.
ولن أكذب بشأن ذهاب الخوف من وقوع هجوم جديد لم يذهب؛ فهو يجلس بجانبي على الشرفة مجاوراً لغضبي وأنا أتطلع لعالم سمح بارتكاب البشاعة مراراً، ليس ضد شعبي فقط، بل ضد شعوب أخرى أشاهد مأساتها على التلفاز.
ربما ستتقابل عيوننا بالصرب الذين يعيشون هناك، بنظرات مليئة بالكراهية والاستحقار. ولو لم تستطع ألسنتنا حينها قول: "أنتم الذين قتلتم شعبنا"، لكن التوابيت البيضاء ستنطق بصمت نيابة عنا.
إلى اليوم، سنستمر في انتظار اعتذاراتهم، بينما سيستمرون في إنكار الإبادة التي ارتكبتها أيديهم، مواصلين مداعبة ولمس أطفالهم وزوجاتهم بأيدٍ دامية، وعيش حياتهم السعيدة الوهمية.
بينما نحن سنعيش يوماً بعد يوم، منتظرين أن يدفع كل شخص ثمن أفعاله. وإن لم يحدث يوماً ما، سننتظر يوم يواجهون الله وحدهم، حينها ستكون ضمائرهم الغائبة هي ما يلقي بهم إلى الهاوية، حينها سيكون كل ما يسمعونه هو توسل الرجال الذين قتلوهم، وصراخ وبكاء النساء اللاتي يناجين ربهن للانتقام.
بكلماتي وقلمي اليوم أوصي العالم بما قاله علي عزت بيغوفيتش: "لا تنسوا الإبادات الجماعية، فإنها تتكرر عند نسيانها". أما عنا نحن فقد "دفنونا في التراب، لكنهم لم يعلموا أننا بذور".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.