منذ عدة أيام أقدم شاب عراقي على إحراق نسخة من القرآن الكريم في عيد الأضحى المبارك في السويد؛ ما أثار ضجة إعلامية بسبب رمزية القرآن لأكثر من مليار ونصف مليار إنسان على وجه الأرض، فهذه الحادثة لم تكن ولن تكون الأخيرة، أما في فرنسا فلقد اشتعلت البلاد لعدة أيام بعد مقتل شاب أجنبي من أصولٍ جزائرية على أيدي الشرطة الفرنسية، ولكن خلف تلك الحادثة الكثير من التساؤلات؛ لأنها لم تكن صدفة ولم تكن الوحيدة، ففي الثمانينيات من القرن الماضي، قامت الشرطة أيضاً بقتل عدة مراهقين فرنسيين من أصولٍ أيضاً عربية.
هذه الحوادث هي حوادث متفرقة بالظاهر، ولكنها ليست كذلك في باطنها وتتزايد ولها دلالاتها البنيوية المتعلقة بطبيعة المجتمعات الأوروبية، خصوصاً بعد التحولات التي طرأت عليها وبعد تزايد الهجرة؛ ما أدى إلى تزايد العنصرية وتراجع مفهوم التسامح المزعوم في أوروبا وكان ذلك واضحاً بعد صعود الأحزاب اليمينية في عموم أوروبا، إضافةً إلى ذكر أمر في غاية الأهمية وهو الإسلاموفوبيا، أو التحامل والكراهية والخوف من الإسلام والمسلمين على حد سواء الذي يُعزى له السبب الرئيسي لتلك الأحداث.
لقد دخل هذا المصطلح إلى عالم الاستخدام في اللغة الإنجليزية سنة 1997 عندما قامت رنيميد ترست، وهي خلية تفكير بريطانيا يسارية باستخدامه لإثارة الكراهية ضد المسلمين، ولكن في الحقيقة هذا المصطلح ليس حديثاً؛ لأنه قد استخدم سابقاً من قبل عدة كتاب سابقين مثل المفكر الجزائري سليمان بن إبراهيم، الذي كتب عن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد كانت آثار الثورة الفرنسية في سنة 1789 على الحضارة الإنسانية كبيرا ولم تبقَ حبيسة فرنسا وأوروبا، إنما انتشرت في كل أرجاء العالم، كانت نتاج التنظير والتثوير لكثير من المفكرين أمثال روسو ومنتيسيكيو وفولتير وغيرهم، هذه الثورة كانت العامل المحرك الأهم للمصطلحات السياسية الحديثة مثل الليبرالية بنموذجها اللوكي نسبة لجون لوك، والديمقراطية بحلتها الجديدة التي كتب لها وطورها روسو، والاشتراكية والعلمانية بحلتها "اللائكية" الفرنسية، وهي نموذج مختلف عن الأنجلو ساكسونية، إضافة لحقوق الإنسان، ولكن بعد مرور الوقت أصبحت تلك المصطلحات أيديولوجيات صلبة غير مرنة تستخدم لأهداف سياسية والتمويه عند الطلب وحسب اللزوم، لقد تحول الإسلاموفوبيا إلى سلاح يستخدمه الغرب ضد كل من يشكل خطراً عليهم وحول مجتمعاتهم إلى قنابل موقوتة تنفجر من حين إلى آخر؛ بسبب تصاعد لغة الكراهية والعنصرية تجاه المسلمين والمهاجرين، لا يخفى على أحد أن الاستشراق القديم والحديث ساهم كثيراً في تكوين وتعزيز هذه النظرة، كما أنهم يقولون إن جزءاً كبيراً من الإرهاب وتنظيماته يعود إلى أسباب تأويلية للتراث والنصوص الدينية الخاطئة تحتاج إلى تهذيبها وإعادة قراءتها بشكل يتناسب مع الحداثة العالمية، ولكن الأهم من كل ذلك، أن كل تلك الأفعال البشعة من العنصرية والقتل وحرق القرآن يتم تنفيذها تحت مسمى الحريات والليبرالية التي تحمي حقوق الفرد وآراءه في كل شيء.
لقد أبصر مصطلح الإسلاموفوبيا النور في ظروف يمر بها العالم الإسلامي بصدمات كبيرة وهندسات مجتمعية وعولمة متوحشة وتغريب ثقافي وديكتاتوريات عسكرية ظالمة وفاسدة، وقد نتج عن ذلك ردات فعل مثل الحركات الإسلام السياسي والحركات الجهادية، ولكن هذا المفهوم تطور بشكل لافت بعد أحداث مفصلية مثل 11 أيلول 2001. بالمقابل، باسم الحريات والليبرالية السياسية تعرضت بلادنا إلى نكسات سياسية واجتماعية وكان لها آثار كبيرة على بنية مجتمعاتنا، فعلى سبيل المثال دخل الأمريكي إلى العراق بحجة الحرية، فغرق العراق في الدماء ولم يتعافَ حتى يومنا هذا، وهذه الليبرالية نفسها تعطي الحرية لفريق وتحرم فريقاً آخر من تعبير عن رأيه، وتسعى جاهدة لفرض هيمنتها الجندرية التي تتيح لا بل تسعى إلى فرض أيديولوجيتها الجندرية التي تقوم بتغيير الجنس وتبيح زواج المثليين وتقنن تلك الأفعال وقد تصل مستقبلاً إلى تجريم الفطرة السليمة، لقد أصبحت الليبرالية بطابعها الاجتماعي المطلقة وحشاً يفترس المؤسسة الأهم، وهي العائلة، وانتقلت إلى المؤسسات التربوية.
في فرنسا ينص الدستور على أن الدولة علمانية، وتحترم الرأي وجميع المعتقدات فيما يخص الشأن الخاص، ولكن الجميع متساوون أمام الدولة والقانون، ولكنها في حقيقة الأمر والواقع فهي علمانية متمايزة، وهي متحاملة على فريق معين، ليست صدفة أن تقتل الشرطة أجانب من أصول عربية، فهذه العلمانية متناقضة، أما فيما يخص الليبرالية في السويد، فهذا البلد هو مثال رائع للحريات واحترام حقوق الإنسان ورفاهية العيش؛ حيث يعيش الإنسان حياة كريمة يتمتع فيها بحقوقه الإنسانية، ولكن أين مقولة هيغل الذي يقول إن الحرية المطلقة تعني اللاحرية؟ فعندما نطلق الحرية بالكامل لشخص دون معايير معينة فهي بلا شك سوف تكون على حساب حرية شخص آخر، ومثل هذه الأفعال لا تعبر أبداً عن الحرية بمفهومها الصحيح؛ لأنها تعرض حرية الآخرين للخطر، ومثل هذه الأفعال هي من ولدت مثل تلك المصطلحات في العقل الغربي التي تشوه الآخرين، وعلى رأسهم الإسلاموفوبيا.
لقد استباحت الليبرالية كل تلك الثوابت وعادت إلى نموذجها اللوكي الأول، فلقد كان جون لوك غير متسامح مع الملحدين على الإطلاق، وهي اليوم لا تتسامح مع الجميع ولا تأخذ بعين الاعتبار جماعات معينة، ماذا فعلت الليبرالية الاجتماعية الجديدة في أوروبا نفسها اليوم؟ بسببها خسرت الإنسانية إنسانيتها وتحوّلت إلى جماد، لقد تعرضت المجتمعات هناك إلى تشوهات بنيوية لم تسلم المسيحية والإسلام منها على الإطلاق.
عودةً إلى فرنسا مرة أخرى، هل الليبرالية هناك حافظت على التعددية واحترمت الخصوصيات التي ينص عليها الدستور الفرنسي أم أنها ميزت بين الأكثرية والأقلية في المجتمع الفرنسي؟ لم تستطع الأقلية أن تندمج في المجتمع الفرنسي لأسبابٍ عديدة، منها التمييز العنصري الفاضح غير المبرر، فلقد كان تصريح الرئيس ساركوزي صادماً بعد أن وعد بتمرير قانون ينص على سحب الجنسية الفرنسية من كل من يعتدي على الشرطة ومن يعدد من زوجاته، وذلك بعد الأحداث التي حصلت في تموز 2010، فهذا التصريح يعكس مفهوم الليبرالية وبنيتها المحافظة على التعددية والأقلية في ظل سيطرة الأكثرية من لونٍ واحد، ما علاقة تعدد الزوجات بالتعدي على الشرطة؟ لا علاقة على الإطلاق، رغم تراجعه عن قراره بعد الانتقادات الواسعة، إلا أن هذا التصريح يعبر بوضوح عن العقلية التي تدار بها فرنسا مؤخراً. معظم الاعتداءات التي تقوم بها الشرطة كانت موجهة على أساس اللون والعرق والبشرة، كما أن صعود اليمين الذي يريد حسب رؤيته الحفاظ على الهوية والثقافة يعتبر أن الاندماج الثقافي والتثاقف الهوياتي غير مقبول ويؤدي إلى ضياع الهوية الأصلية.
لقد وصلت الليبرالية الجديدة الاجتماعية إلى حدودٍ خطيرة، ونستطيع أن نطلق عليها في نسختها الجديدة "الليبرالو- فوبيا"، نظراً إلى كونها عاملاً أساسياً في انهيار المؤسسة الأم، أي العائلة والمؤسسات التربوية وجيل كامل، وساهمت في ضرب بنية المجتمع في ظل توغل العولمة المتوحشة، فإنها لم تعد مقتصرة تلك الليبرالية بمنظورها ومفهومها السياسي على استيعاب التعددية وتنظيم الاختلافات وقبول الآخر، وهو مطلوب في كل المجتمعات والدول، إنما في حلتها الاجتماعية فلقد أطلقت العنان لموجة كراهية من فريق معين تجاه فريق آخر بحجة حرية التعبير ولم تراعِ حرية التدين واحترام الأديان والمعتقدات، ومثل تلك التصرفات قد تؤدي إلى موجة عنف رهيب، إضافة إلى كونها أطلقت حركات اجتماعية تسعى إلى تشويه الطبيعة البشرية والطفولة الإنسانية والتعزيز الكراهية بين الرجل والمرأة عبر ما يسمى بالحركات النسوية غير آبهة بنتائج تلك الأفعال على البشرية جمعاء، ولكن لا بد من التفريق بين الليبرالية المطلوبة والليبرالية المشوهة والمدمرة "الليبرالو فوبيا" التي أصبحت فوبيا للمجتمعات الغربية نفسها قبل أن تكون فوبيا للمجتمعات الأخرى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.