لطالما ورد على مسامعنا ما يشير إلى أن الشرق الأوسط هو صندوق بريد تعبر من خلاله مصالح الدول الكبرى، وهو ما يجعل هذه المنطقة دائمة التفاعل والتأثر مع كل المتغيّرات في الساحة الدوليّة، ولعلّ أحدث ما يجري على الساحة الدوليّة هو الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة، التي بدأت منذ مطلع عام 2022، وما زالت قائمة حتى يومنا هذا. وعلى الرغم من أنها محدودة النطاق جغرافياً، إلّا أن أثرها طال معظم دول المنطقة بشكل متفاوت، وكشفت الكثير عن السياسات الحاكمة في المنطقة التي تتراوح بين ما هو سلبي وإيجابي.
ولكي نتمكّن من فهم تأثير هذه الحرب على الشرق الأوسط يجب أن نعود إلى تاريخ هذا الصراع لفهم خلفيّاته وأبعاده وعلاقته بالمنطقة العربيّة. بالعودة قليلاً إلى أسباب هذه الحرب نجد أنها ليست وليدة اللحظة، وأن جذورها تعود إلى مرحلة انهيار الاتحاد السوفييتي. بداية، إن روسيا تعتبر أوكرانيا ضمن مجال نفوذها الطبيعي، كونها كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، وهم يتشاركون الثقافة والديانة ذاتها إلى أن جاء استقلال أوكرانيا عن روسيا عام 1991 مع تفكّك الاتحاد السوفييتي. ومع قرب أوكرانيا من الغرب واحتمال انضمامها إلى الناتو أو الاتحاد الأوروبي ازداد التوتر الروسي باعتبار أن هكذا خطوات، وهي لم تحصل حتى اللحظة، تشكّل خطراً داهماً على الأمن القومي الروسي من وجهة نظر روسيا. اندلعت بعدها ثورة شعبية عارمة في أوكرانيا عام 2004، عُرفت بالثورة البرتقالية طالبت بوقف كل أشكال التدخل الروسي فيها، وبمحاربة الفساد وبناء مؤسسات تحقّق آمال الشعب الأوكراني وهو ما لم يحدث لتعود الاحتجاجات عام 2013، حيث عاد الأوكرانيون للتظاهر والاحتجاج الذي ما لبث أن تحوّل إلى ثورة في فبراير/شباط عام 2014 ضد الرئيس الأوكراني آنذاك فيكتور يانوكوفيتش، المعروف بولائه لروسيا، وجاء رفضه لتوقيع اتفاقيّة تعاون مع الاتحاد الأوروبي عام 2012 عاملاً مؤججاً للغضب الشعبي الأوكراني، وهو ما دفعه للنزول والاحتجاج. أهم ما كان ينصّ عليه هذا الاتفاق شراكة سياسيّة مع الاتحاد الأوروبي وسياسة مشتركة في الأمن والدفاع.
إضافة إلى ضمان حريّة التنقّل بين البلاد. وبالوقوف قليلاً عند هذا الاتفاق نلاحظ أن موافقة أوكرانيا على هكذا اتفاق وإن حصلت، ما هي سوى توسيع دائرة النفوذ الغربي داخل المدى الروسي. عام 2019 أقرّت أوكرانيا تعديلات دستوريّة تؤكد تمسّكها بسياسة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وهو ما تراه روسيا خطراً على أراضيها، خاصّة لو نشرت فيها قوّات للناتو أو صواريخ دفاعيّة أو طائرات هجوميّة وهو ما دفع موسكو منذ مطلع عام 2021 إلى إرسال أعداد كبيرة من قوّاتها إلى الحدود مع أوكرانيا وأعادت تموضع جنود لها من القوقاز الى جزيرة القرم وصلت إلى 175 ألف جندي مدعومين بكل أنواع الأسلحة لتصدر على أثر هذه الاستعدادات التقارير الغربيّة التي تشير إلى احتمال غزو روسي وشيك لأوكرانيا في عام 2022، وهو ما حصل بالفعل، ولا يزال حتى هذه اللحظة.
تفاوتت حدّة التأثر التي طالت المنطقة بعد نشوب هذه الحرب، والتركيز هنا هو على الآثار الاقتصاديّة والسياسيّة في آن واحد، وذلك لأن روسيا وأوكرانيا تلعبان دوراً أساسياً في توريد بعض أهم المواد الأوليّة، فروسيا هي المورّد الأوّل للغاز الطبيعي وللنفط الخام أما أوكرانيا، فهي أهم مورّد للقمح . التحدّي الأكبر أمام دول المنطقة هو مدى قدرتها على ضبط أي حاجة لرفع أسعار السلع الأساسيّة من جهة وعلاقاتها الدبلوماسيّة مع طرفي النزاع من جهة أخرى.
لم تستطع معظم دول المنطقة من إعلان الدعم والتأييد الصريحين لطرف من الأطراف باستثناء سوريا وإيران اللتين أعلنتا التأييد المطلق لروسيا منذ اللحظة الأولى. أما باقي الدول فما زالت تحاول أن تلعب دور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا محاولين الحفاظ والموازنة في مصالحهم بين الطرفين. ليأتي التصويت في الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة على قرار إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا معبّراً عن الضغوطات الغربيّة التي تعرّضت لها معظم دول المنطقة بهدف تصويب الأصوات لصالح هذا القرار وعن مدى قدرة هذه البلاد على الاستقلاليّة أثناء تحديد مصير تحالفاتها السياسيّة. فتبيّن أن الدول التي تعتمد بشكل أساسي على الاستيراد بهدف تأمين حاجات شعبها من المواد الأوّليّة كانت محط ضغوطات كبيرة. فمصر على سبيل المثال لا الحصر، من الدّول التي تربطها علاقات وثيقة بروسيا ما جعلها في بادئ الأمر عازمة على الحياد إلّا أن الضغوطات الأمريكيّة والأوروبيّة أرغمتها على التصويت لصالح إدانة الغزو الروسي.
أما في العراق، فلقد انقسم الداخل السياسي العراقي بين معترف بعدوان روسي على أوكرانيا (التيار الصدري، الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة السني) وبين متعاطف مع الطرف الروسي (الأحزاب المتحالفة مع إيران) وبالرغم من أن العراق امتنع عن التصويت لإدانة العدوان الروسي إلا أن الضغوطات الأمريكيّة والغربيّة الكبيرة جعلته يصوّت على القرار الذي يطالب بوصول المساعدات الإنسانية إلى أوكرانيا.
أمّا لبنان، البلد الذي يستورد 80% من احتياجاته للقمح من أوكرانيا، وأمام الأزمة الاقتصاديّة والماليّة الخانقة التي تعرّض لها منذ عام 2019، ومع فقدانه الجزء الأكبر من قدرته التخزينية للقمح بعد انفجار 4 أغسطس/آب 2020, لم يستطع الوقوف محايداً ووجد نفسه منحازاً بطبيعة الحال للتصويت على قرار إدانة الغزو الروسي على أوكرانيا، داعماً بذلك قرار الجمعيّة العامة للأمم المتحدة وهو بذلك يحاول أن يضمن كل أنواع المساعدات المالية المقدّمة له من الجهات المانحة، أهمها صندوق النقد الدولي.
من جهة أخرى، فإن دول الخليج المعروفة بأنها دول مصدّرة للنفط والغاز كانت قادرة على حماية نفسها من الآثار الاقتصادية السلبية المترتبة عن هذه الحرب؛ ما مكنها من اتّخاذ قرار سياسي وفق ما تراه يصبّ في مصلحة بلادها وأولوياته. وعلى الرغم من المأزق الدبلوماسي الذي وجدت نفسها أمامه إلّا أنها التزمت بموقف غامض حيال إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا إذ إن هناك علاقات وثيقة تربط دول الخليج بالولايات المتحدة الأمريكية والغرب ككل بشكل عام إلّا أن هناك علاقات تجاريّة وسياسيّة أقوى تربطها بروسيا، في محاولة لتنويع علاقاتها الخارجية. أما اللافت الأكبر فكانت الدبلوماسية المغربية الماهرة في هذا الملفّ، فعلى الرغم من أن المغرب كان أقل تأثراً بما يخصّ استيراد القمح من أوكرانيا وروسيا نظراً لاستيراده فقط ما بين الـ20 والـ30% من احتياجه من الخارج إلا أنه يبقى عرضة لتقلّب الأسعار عالمياً.
استطاع المغرب البقاء محايداً كما لم يصدر أي تصريح علنيّ يعتبر فيه الصراع في أوكرانيا غزواً، كما وصفه المجتمع الغربي، ولم يشارك في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار إدانة روسيا ليعود بعدها ويصرّح في بيان بأن عدم المشاركة بالتالي: "قرار سيادي لا يمكن تفسيره بأنه اصطفاف استراتيجي أو موقف يتعارض مع القانون الدولي وسلامة أراضي الدول"، وهكذا يكون قد تجنّب نقد أي من الطرفين فلا إزعاج لحلفائه الغربيين ولا عداوة مع روسيا.
استطاعت الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة كشف الكثير عمّا يدور في أروقة السياسة على المستوى الدولي إذ بات واضحاً أن الحرب الروسية-الأوكرانية هي حرب مصالح وبسط نفوذ بين روسيا من جهة والدول الغربيّة من جهة أخرى للنفوذ لا ينحصر ضمن النطاق الجغرافي لروسيا بل يمتد ليشمل مصالح الجهتين في الشرق الأوسط وسائر مناطق العالم أيضاً. كما كشفت عن سياسات الشرق الأوسط، حيث تبيّن كيف أن بعض الدول معتمدة في تأمين الموارد الأوليّة على الخارج في حين أن البعض الآخر يعتمد في تأمين مواده الأوليّة على ذاته دون الحاجة إلى الاستيراد من الخارج. هذه النماذج المتعددة تظهر مدى أهميّة الدّور الذي يلعبه الاقتصاد في بناء السياسات الخارجيّة؛ حيث كان واضحاً أنه كلّما كانت السياسات الاقتصاديّة للدولة متينة، كانت المواقف السياسيّة مستقلّة وغير خاضعة للرغبات الخارجيّة. فهل يكون ما واجهته بعض الدول من أزمات اقتصاديّة بفعل الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة دافعاً لها للتفكير بطرق تأمين اكتفاء ذاتي يضمن لها استقلاليّة سياسيّة في علاقاتها مع الخارج؟ وهل تكون هذه الحرب بوّابة للتفكير باتحاد عربي فعلي شبيه بالاتحاد الأوروبي، يكون قادراً على تغطية احتياجات المنطقة كافة دون الاتكال على الغرب؛ ما يضمن لهم استقلالاً تاماً في كل القرارات المصيريّة التي تهمّ أمن واقتصاد المنطقة؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.