أثار الفعل المستفز الذي قام به أحد الأشخاص المتطرفين في السويد، قبل أيام، حين قام بحرق نسخة من القرآن الكريم في أول أيام عيد الأضحى المبارك، ردود فعل غاضبة واستهجانات حتى من قبل مواطنين سويديين.
ولا أريد التوقف في هذا المقام عند الشخص الذي قام بهذا الفعل المشين؛ لأنه وبغض النظر عن المبررات التي يسعى إليها أمثاله فهم لا يستحقون عموماً أن نمنحهم ما يبحثون عنه من وراء هذه الأفعال المليئة بالعنصرية والبغض.
إنما ما أثار انتباهي ودفعني لكتابة هذا المقال هو موقف ومبررات السلطات السويدية حيال هذه القضية بشكل عام. واللافت للانتباه أن الحادث الأخير لم يكن هو الأول من نوعه، فهذه المسألة، أي تعمد إهانة واستفزاز مشاعر المسلمين، تكررت أكثر من مرة في هذا البلد، ومثلما حصل في المرة الأخيرة يبدأ الأمر أولاً برفض السلطات التنفيذية (ممثلة في الشرطة)، إعطاء موافقة أو ترخيص لهكذا أفعال استفزازية، ثم ينتهي الأمر بتدخل السلطات القضائية لإلغاء هذا الرفض ومنح الإذن بممارسة هذه الأفعال التي أقل ما يقال عنها إنها تشكل تهديداً للسلم والأمن الاجتماعي في أي بلد.
والمفارقة الكبرى في رأيي تمثلت في قيام الحكومة السويدية قبل بضعة أيام، وذلك بسبب تصاعد الإدانات الدولية تجاه ما حصل حتى من أقرب حلفائها مثل الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب بدء حملات المقاطعة ضد منتجاتها، بإصدار تصريح "تندد" فيه بحادثة حرق القرآن، وكأن هذا الفعل تم في دولة أخرى ولم يتم بموافقة رسمية من سلطات البلد القضائية وبحراسة ومرافقة من سلطات البلد التنفيذية!
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل الموضوع يتعلق بحرية التعبير كما تدعي بعض وسائل الإعلام الغربية؟ أم أن الأمر يخضع لضوابط ومعايير؟
أولاً: هناك فرق شاسع بين "حرية التعبير" وبين "الإساءة المتعمدة" أو الانتقاص والتحقير لمعتقدات ومقدسات الآخرين، ورغم قيام كثير من الدول الأوروبية بحذف القوانين التي تعاقب على الإساءة للأديان، إلا أن بعض الدول الأوروبية ومنها ألمانيا على سبيل المثال ما زالت تحتفظ بالمادة التي تجرم من يقوم بذلك.
والقانون الألماني الخاص بهذه الحالة يعود إلى عام 1871، وتم تعديله عام 1969، حيث أصبح تطبيق العقوبات الخاصة بالتعدي على المعتقدات يرتبط بشرط أن يؤدي ذلك إلى "الإخلال بالسلام والأمن العام"، وإذا تبث ذلك فإن المحكمة تصدر في هذه الحالة أحكاماً بغرامات مالية أو بالسجن لمدة قد تصل إلى 3 سنوات.
وفي عام 2006 صدر حكم في مدينة مونستر الألمانية يمكن اعتباره من بين الحالات القليلة التي تم فيها إصدار عقوبة تستند على هذا القانون الخاص بهذا الشأن. فقد أصدرت المحكمة حينها حكماً مع إيقاف التنفيذ في حق رجل قام بطباعة آيات من القرآن على الورق المستخدم في المراحيض ثم قام بتوزيعها، واعتبرت المحكمة في قرارها أن مثل ذلك التصرف يهدد السلم والأمن العام.
وقد رفضت رابطة القانونيين الألمان في مؤتمرها الذي عقدته عام 2014 في مدينة هانوفر اقتراحاً تضمّن حذف المادة 166 من قانون العقوبات، معتبرة أن هذه المادة "تحافظ على شعور الأقليات الدينية بالأمان".
أما في الولايات المتحدة نفسها فهناك من يرى أن الإساءة للأديان تتعارض مع التعديل الأول في الدستور الأمريكي، وفي حين لا توجد في أمريكا قوانين "فيدرالية" تحظر الإساءة للأديان إلا أن بعض الولايات الأمريكية لديها قوانينها الخاصة فيما يتعلق بالتجديف والإساءة الدينية.
أما القول إن حرية التعبير في أي بلد هي بلا سقف أو قيود فهو قول متناقض يكذبه الواقع نفسه، حيث يعلم الجميع أن هناك قيوداً وحدوداً لحرية التعبير، سواء في السويد نفسها أم في غيرها من الدول الأوروبية المتقدمة، فهناك أمور وقضايا يعاقب القانون من يخوض فيها ولا يتم أبداً التسامح حيالها أو التذرع بحرية التعبير، ومن يعش في الغرب يدرك هذه الحقائق جيداً، ولذلك فإن مثل هذه المواقف التي تكيل بمكيالين أضحت مكشوفة ومستفزة.
ثم أي حرية تعبير هذه التي تتمثل في أفعال عنصرية بحتة ضد فئة من فئات المجتمع؟ إن قرار الشرطة السويدية منذ البداية برفض منح التصاريح لهكذا أفعال كان صائباً، وانطلق من منظور أن هذه الممارسات تشكل تهديداً للأمن والسلم الاجتماعي، بل وحتى للأمن القومي. ومن المعروف أن السلم المجتمعي هو الركيزة الأساسية لاستقرار أي دولة، لكن المحكمة السويدية تجاهلت كل تلك الحقائق وأصرّت على موقفها الذي سمح ببساطة لفرد واحد من أفراد المجتمع بأن يمارس فعلاً عنصرياً ومسيئاً ضد فئة تشكل حوالي 8% من تعداد المجتمع (يبلغ عدد المسلمين في السويد حسب آخر إحصائية في عام 2022 حوالي 850 ألفاً).
وتكفي الإشارة إلى آية واحدة عظيمة في هذا الكتاب الكريم الذي سمحت الحكومة السويدية بحرقه بدعوى "حرية التعبير"، وهي قوله تعالى في سورة الحجرات: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
فالتعارف يقتضي وجود "الاختلاف"، وإلا انتفت الحاجة إليه من الأساس، وهذا الاختلاف هو سنة من سنن الله في الكون: (وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)، والتعارف يقوم على القبول والاحترام لا على الرفض والانتقاص، ومن حق الانسان أن يعبر عن رأيه وأن يرفض شيئاً ما أو يقبله لكن ضمن المعايير والحدود اللائقة البعيدة عن الإساءات العنصرية أو الممارسات التحريضية. وعلى الحكومة السويدية أن تتعلم من هذا الدرس، وأن تدرك أن حرية التعبير شيء والإساءة لمعتقدات الآخرين شيء آخر، وأن مهمة القانون هي أن يحافظ على الأمن والسلم في المجتمع لا أن "يحمي" و"يحرس" من يتعدى عليهما!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.