هناك مواجهات عدة بين المسلمين والغرب، منها ما هو جماعي كأن تحتك جماعة بأخرى كما حدث في حالتي الفتوحات الإسلامية والاستعمار الأوروبي للبلاد العربية، ومنها ما هو فردي كأن يقيم شخص لفترة ما في أوروبا أو أمريكا بغرض الدراسة أو العمل كحالة سيد قطب (1906 – 1966) الذي أقام لمدة عامين في أمريكا، أو أن يولد مسلماً وينشأ في دولة أوروبية، كما في حالة المفكر السويسري ذي الأصول المصرية طارق رمضان.
الجدير بالذكر أن سيد قطب كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، بينما طارق رمضان هو حفيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، ووالده سعيد رمضان كان عضواً نشطاً بها، ما دفع الحكومة الناصرية آنذاك إلى نفيه خارج البلاد فاضطر إلى الهجرة إلى ألمانيا ثم إلى سويسرا، فأسس المركز الإسلامي بجنيف الذي يديره حالياً أحد أبنائه الداعية الإسلامي هاني رمضان.
إذاً هناك قاسم مشترك يجمع كلا الرجلين وهو الموروث الفكري لجماعة الإخوان المسلمين. فهل نظر كلاهما إلى الغرب بنفس العدسة؟
التجربة والحكم الشخصي
اعتبر سيد قطب الغرب منحطاً غارقاً في الشهوات، فوضع سرديته وفصل بين الشرق الروحاني والغرب المادي، إذ يقول: "وإنه ليبدو أن العبقرية الأمريكية كلها قد تجمعت وتبلورت في حقل العمل والإنتاج، بحيث لم تبقَ فيها بقية تنتج شيئاً في حقل القيم الإنسانية الأخرى… ولقد بلغت في ذلك الحقل ما لم تبلغه أمة، وجاءت فيه بالمعجزات التي أحالت الحياة الواقعية إلى مستوى فوق التصور وفوق التصديق لمن لم يشهدها عياناً. ولكن الإنسان لم يحفظ توازنه أمام الآلة، حتى ليكاد هو ذاته يستحيل آلة، ولم يستطع أن يحمل عبء العمل المنهك ثم يمضي قدماً في طريق الإنسانية، عندئذ أطلق للحيوان الكامن العنان، ضعفاً عن أن يحمل عبء العمل وعبء الإنسان".
وفي مقابل هذه النظرة المادية للغرب، يأتي طارق رمضان بفكره، وهو ما أراه مثالاً أكثر واقعية وفاعلية للمسلم الأوروبي الذي نظر إلى الغرب من زاوية تختلف كثيراً عن نظرة سيد قطب؛ فقد تنبه إلى ضرورة العيش المشترك بين المسلمين وغير المسلمين في القارة العجوز.
كما اعتبر "الإسلام ديانة فرنسية وأننا نريد العيش معا جميعاً"، وأنه لا تناقض بينه وبين الدساتير الأوروبية الحديثة، بل نظر إلى القواسم المشتركة بين الإسلام والغرب وبنى عليها أسس التعايش السلمي التي لا يمكن للاختلافات أن تؤثر عليها سلباً، كما دعا المسلمين إلى تقوية حضورهم في الغرب بواسطة أنفسهم وعدم الاعتماد على مصادر من الخارج نشأت في سياق آخر غير السياق الغربي، وبالتالي لا تعرف طبيعة حياة المسلمين هناك.
رمضان دعا إلى ثورة فكرية تحرر المسلمين من عقدة النقص التي يعانون منها عند مقارنة أنفسهم بالغرب، حيث نجده يقول: "إن حركة الإصلاح تتطلب، كما رأينا في مرات عديدة، ثورة فكرية حقيقية تمكننا من التصالح مع عالمية القيم الإسلامية ومن أن نكف عن اعتبار أنفسنا أقلية مهمشة على حساب التكيف والاندماج في المجتمع، وعن ألا نفعل شيئاً سوى حماية أنفسنا من الاحتكاك بالمجتمع الذي نعتبره خطراً علينا. ولكي نحقق هذه الثورة على المسلمين في الغرب أن يحرروا أنفسهم من عقدة النقص المركبة التي يعانون منها- في علاقتهم بالغرب وسيطرته العقلانية والتقنية من ناحية، وعلاقتهم بعالم الإسلام الذي يبدو أنه ينفرد بإنتاج هذه العقول الإسلامية الناطقة بالعربية التي تقتبس النصوص بهذه السهولة من ناحية أخرى. يجب علينا تحرير أنفسنا من هذه الأخطاء عن طريق خلق حضور ثري إيجابي تشاركي في الغرب، يجب أن يساهم من الداخل في الحوار حول عالمية القيم والعولمة والأخلاق ومعنى الحياة في العصور الحديثة".
ما السبب وراء التباين في الرؤى؟
من أجل الإنصاف، يجب أن نراعي كل رؤيه في سياقها الزمني والبحث عن الأسباب الكامنة التي أدت لهذا التصور والطرح. وهنا نجد أن ظروف سيد قطب تختلف تماماً عن طارق رمضان؛ فالأول تم ابتعاثه بداية الخمسينيات من وزارة المعارف إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فقضى عامين يتنقل بين ولاياتها ومدنها ليزور الجامعات والمعاهد العلمية كي يطلع على المناهج التربوية وأساليب التدريس ويسجل ملاحظاته، أي أنه لم يحصل على الوقت الكافي للاحتكاك الذي يمكن على أساسه إصدار أحكام مؤسسة، فضلاً عن انشغاله بالمهمة التي أرسل من أجلها.
ويجب أن نلاحظ جيداً الفترة الزمنية التي عاش فيها سيد قطب، إذ كان شاهداً على استعمار الغرب للبلاد العربية ونهبه لثرواته، بل وترك أذناب له بعد الاستقلال يحكمون البلاد بالحديد والنار، مما حدا بقطب إلى أن ينظر إلى الغرب من زاوية سلبية.
فنجده يقول في هذا السياق: "إن الاستعمار لا يغلبنا اليوم بالحديد والنار، ولكنه يغلبنا قبل كل شيء بالرجال الذين استعمرت أرواحهم وأفكارهم، يغلبنا بهذا السوس الذي تركه في وزارة المعارف، وفي الصحف، والكتب، يغلبنا بهذه الأقلام التي تغمس في مداد الذل والهوان الروحي لتكتب عن أمجاد فرنسا، وأمجاد بريطانيا وأمجاد أمريكا".
ثم إن الرجل كان يرى لكراهية الغرب مبرراً هو معاملة المستعمرين لأبناء جلدتنا بوحشية: "من الذي يسمع عن وحشية الفرنسيين في الشمال الإفريقي، ثم لا يمزق كل ما هو فرنسي، إن لم يكـن بيديه وقدميه، فعلى الأقل بمشاعره وقلمه ولسانه؟ من الذي لا يحتقر أمريكا ويحتقر معها آدمية الأمريكان وهو يجد المعدات الأمريكية والدولارات الأمريكية تشد أزر الاستعمار الأوروبي في كل مكان لقاء مساومات اقتصادية أو استراتيجية أو عسكرية؟".
إن سفر قطب إلى أمريكا جاء في فترة إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، وضياع دولة عربية كفلسطين التي كانت أمريكا داعماً كبيراً وراء ضياعها لحساب الكيان الصهيوني، لذلك نجد سيد قطب ناقداً لاذعاً للرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان، وله مقال حول موقف أمريكا من القضية الفلسطينية بعنوان: "الضمير الأمريكاني وقضية فلسطين".
كما وصف أمريكا بأنها تشتهي الحروب لكثرة الحروب التي شنتها خلال القرن العشرين. هذا فضلاً عن اضطهاد قطب وجماعة الإخوان المسلمين عموماً في العهد الناصري الذي انتهي بإعدامه، مما كان له بالغ الأثر على فكر الرجل.
إن الظروف التي عاشها قطب حدت به إلى أن يرى في الإنسان الأبيض محسوراً كعدو الإسلام الأول كما يفهم من عنوان مقاله، حيث يقول: "إن الرجل الأبيض هو عدونا الأول.. سواء كان في أوروبا أو كان في أمريكا.. وهذا ما يجب أن نحسب لهُ حسابه ونجعله حجر الزاوية في سياستنا الخارجية، وفي تربيتنا القومية كذلك".
بعكس رمضان الذي وُلد في سويسرا، قُبيل عصر ما بعد الحداثة، وبها نشأ ثم درس الأدب الفرنسي والفلسفة الغربية، فاستطاع مثاقفة الغرب بوعي مؤسس، ولغة قوية نظراً لإجادته الفرنسية والعربية كلغة أم والإنجليزية كلغة ثانية، مما أتاح له الاطلاع بعمق على فكر الآخر بلغته الأصلية.
لقد نشأ رمضان مواطناً أوروبياً ذا أصول مصرية إسلامية، فتمتع بالديمقراطية الغربية وجودة تعليمها، مما انعكس بالإيجاب على نظرته للغرب عموماً ونبهه إلى ضرورة وجود الجاليات المسلمة هناك، وما تمثله من امتداد للعالم الإسلامي داخل أوروبا، وهو ما دفعه إلى رعاية الجالية المسلمة في السياق الفرانكفوني عموماً.
خاتمة:
إن كتابات سيد قطب عن الغرب، والتي غالبها حاد وسلبي لم يستطِع أن يرى بعين أوسع والاستفادة من إيجابيات الغرب الكثيرة، إذ إن الحضارات تستكمل ببعضها البعض، فكانت رؤيته قاصرة نتاجاً لتجربته الشخصية وظروف عصره، بالتالي لا يمكن لها أن تكون مرجعاً لمسلمي الشرق في العصر الحالي، فضلاً عن مسلمي الغرب الذين يعيشون في سياق مختلف تماماً.
بينما تجربة طارق رمضان فهي -من وجهة نظري- ربما تكون نموذجاً يحتذى به للمسلمين المقيمين في الغرب؛ نموذجاً للمسلم الذي لا يعزل نفسه عن المجتمع الذي يعيش فيه والذي يعد جزءاً منه، نموذجاً للمسلم الذي يتفاعل مع حوله بفاعلية ولا يفوت فرصة للاستفادة من إمكانيات أوروبا الكثيرة التي تمكنه من الارتقاء بنفسه ومن المساهمة في تطوير مجتمعاتهم.
فربما تنبه رمضان إلى أن مستقبل الإسلام ليس في الشرق الذي يعاني ويلات الحكم الدكتاتوري وغياب الحريات وحقوق الإنسان وانتشار الجماعات الإسلامية المتطرفة، بل في أوروبا الحريات، وليس من سبيل للمسلمين سوى الاندماج في المجتمع عن طريق العيش المشترك ومحاورة الآخر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.