تمتلك الصين واحداً من أكبر الاقتصادات في العالم، وتعد إحدى الدول القليلة التي استطاعت بناء اقتصاد قوي ومزدهر خلال العقود الأخيرة، فتحولت من اقتصاد نامٍ إلى إمبراطورية اقتصادية عالمية.
تستند قوة الصين الاقتصادية إلى التصنيع العملاق لكافة المنتجات وتصديرها لباقي الدول، مما جعلها مصنع العالم على مدى العقود الأربعة الماضية، حتى صارت رحلة صعودها إلى هذه المكانة علامة بارزة على عصر العولمة وسلاسل التوريد المتكاملة بين أرجاء العالم.
وتساهم الصين اليوم بدور كبير في الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الكثير من الدول النامية، بالإضافة لذلك فإنها تمتلك العديد من الشركات العملاقة العابرة للقارات التي تعمل في العديد من القطاعات الاقتصادية المختلفة.
يقول مثل صيني: إذا كان "الثوب يمنح الرجل هيبة، فإن المال يمنحه الجرأة" وبفضل تلك القوة الاقتصادية امتلكت الصين الجرأة على تطوير استراتيجية تعرف بـ"دبلوماسية فخ الديون"، وهي استراتيجية جديدة كلياً للفوز بالحرب الاقتصادية المستعرة عالمياً، تستخدم لتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي في العديد من البلدان حول العالم.
استراتيجية السياسة الناعمة.. فخ الديون الصينية
بمجرد أن دخلت بكين في صراع الهيمنة الاقتصادية، انصبت جهودها بشكل رئيسي على دول العالم الثالث، وبالأخص على بلدان القارة الإفريقية. إذ كانت هذه البلدان تعبر عن حماس كبير للحصول على القروض من بكين، بهدف تحسين بنيتها التحتية ضمن إطار مشروع "طريق الحرير الجديد" الذي يستهدف تعزيز التجارة والتواصل بين الصين والعديد من الدول الأخرى.
لكن ليس كل ما يلمع ذهباً، حيث تم وصف هذه القروض الصينية بأنها "نسخة جديدة من الاستعمار" على لسان رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد في قلب العاصمة الصينية بكين لرئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشاينغ في أغسطس/آب 2018.
وقد نالت العديد من الانتقادات، فهي عبارة عن خطط وشراك صينية موضوعة بعناية بإحكام للسيطرة على المطارات والموانئ والمضايق والجسور الحيوية في تلك الدول حال عجزها عن سداد الديون الضخمة، التي منحتها إياها بكين رغم معرفتها بعدم قدرتهم على السداد.
وتعتبر واحدة من الانتقادات الرئيسية لفخ الديون الصينية هي الفوائد العالية المفروضة على هذه القروض. يُزعم أن الصين تفرض أسعار فائدة مرتفعة، فالصين تميل إلى تقديم القروض بأسعار فائدة أعلى مقارنة بالحكومات الغربية.
إذ تتراوح أسعار فائدتها عادة في حدود 4%، وهو مستوى أعلى بحوالي أربع مرات من أسعار الفائدة للقروض التجارية التقليدية التي تمنحها الأسواق المالية.
وتعد هذه الأسعار مرتفعة بشكل ملحوظ عن أسعار الفائدة للقروض التي تُقدم من قبل المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي، وكذلك عن أسعار الفائدة للقروض التي تُقدم من قبل بعض الدول الغربية مثل فرنسا وألمانيا.
تتطلب الصفقات المالية مع الصين ضمانات مشروعية، مثل منح حقوق ومناقصات استخراج الموارد الطبيعية أو تأجير الأراضي لشركات صينية حصراً ، كما ترسل بكين أحياناً عمالتها الخاصة للمنافسة على الوظائف المحلية. مما يثير بعض المخاوف بشأن استغلال الموارد الحيوية والطاقة، مما قد يقلل من القيمة المضافة المحلية ويزيد من اعتماد تلك الدول اقتصادياً على الصين. بالتالي تصبح القروض في خدمة مصالح الصين الاقتصادية والجيوسياسية فقط، في مقابل تآكل سيادة الدول المقترضة أمام هيمنة التنين الصيني على اقتصاداتها.
وفقاً لتقرير صادر عن مركز الأبحاث (AidData) التابع لجامعة ويليام أند ماري في ولاية فرجينيا الأمريكية، أظهرت البيانات أن الصين قد قرضت أو منحت أموالاً لما يصل إلى 13.427 مشروعاً للبنية التحتية في 165 دولة حول العالم، بقيمة تقدر بحوالي 843 مليار دولار خلال الـ18 عاماً الماضية. ويتصل معظم هذه المشاريع بمبادرة "الحزام والطريق" الصينية الطموحة والخطيرة على بعض الدول.
دول وقعت في شباك فخ الديون الصينية
منذ بداية الألفية الجديدة، في إطار تحقيق التفوق الصيني خلال الصراع الدائر مع الولايات المتحدة المشتعلة. أثقلت بكين كاهل العديد من الدول، كأوغندا وباكستان وكينيا وأستراليا واليونان ومونتينيغرو وليتوانيا وغيرها. فعلى سبيل المثال:
- مطار أوغندا الدولي
استفادت الصين من عجز الحكومة الأوغندية عن سداد القرض الذي حصلت عليه من بنك التصدير والاستيراد الصيني (EXIM) في عام 2015 بقيمة تقدر بحوالي 207 ملايين دولار وبفائدة 2%، والذي تم تخصيصه لتوسيع مطار عنتيبي الدولي.
وعلى إثر عدم تمكن الحكومة الأوغندية من تسديد هذا الدين، تمكنت الصين من الاستيلاء على هذا المطار دون اللجوء إلى التحكيم الدولي بالرغم من نفي هيئة تنظيم الطيران الأوغندية حدوث احتكار للصين على المطار، أصرت الصين على أنها تعاون تنموي.
- ميناء مومباسا الكيني
اضطرت كينيا أيضاً لوضع "ميناء مومباسا"، أكبر وأهم مرفأ في البلاد، كضمانة للحكومة الصينية بسبب التزاماتها المتراكمة. وبلغ حجم الديون أكثر من 3.6مليار دولار، مما جعل كينيا واحدة من الدول الأكثر عرضة لفقدان الأصول الاستراتيجية لصالح بكين.
ويعد الميناء منفذاً بحرياً حيوياً لكينيا، وحاضنة استراتيجية للتجارة والاستثمار في المنطقة. لكن مع زيادة الالتزامات المالية تجاه الصين، فإن هناك مخاوف حقيقية بشأن فقدان سيطرة كينيا على هذا المرفأ الاستراتيجي.
- جزر المالديف
ديون الصين في جزر المالديف تبلغ قيمتها 1.4 مليار دولار، وهو ما يمثل أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي السنوي للبلاد. بالإضافة إلى ذلك، استأجرت الصين جزيرة من جزر المالديف لمدة 50 عاماً.
ومؤخراً عند تولي إبراهيم محمد صلح منصب الرئيس، بدأ في مراجعة الإنفاق الصيني والتعاقدات المتعلقة بهذا الأمر. حيث وصف هذا الاستحواذ بأنه مشروع للاستيلاء على أراضي الدولة.
- ميناء شيتاغونغ في بنغلادش
تراكمت ديون الحكومة في بنغلادش لتصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، واستغلت الصين هذا الوضع للاستيلاء على أكبر وأهم ميناء بحري في البلاد، وهو ميناء شيتاغونغ.
- باكستان بعيون صينية
قامت إحدى الشركات الصينية بالاستحواذ على ميناء غوادر الاستراتيجي لمدة 40 عاماً مع امتلاك إيرادات 85% من إجمالي إيراداته.
- سريلانكا الصينية
جعل موقع سريلانكا الاستراتيجي على خط الملاحة الأكثر ازدحاماً بين شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا محط أنظار الصين. فقامت الصين بتقديم استثمارات ضخمة لسريلانكا، حيث قدمت حوالي ثمانية مليارات دولار بفائدة تصل إلى 6.3%. وهذه النسبة مرتفعة بالمقارنة مع البنك الدولي الذي يتراوح متوسط فوائده بين 0.25% و3%.
وعندما عجزت سريلانكا عن السداد، انقضت بكين على حصة تبلغ 85% من ميناء "هامبانتوتا" الاستراتيجي، من خلال عقد بمدة تصل إلى 99 سنة. وبالإضافة إلى ذلك، حصلت على حوالي 15 ألف فدان قريبة من الميناء لتطويرها منطقة صناعية تابعة لها.
الأردن والفخ الصيني
ولم تسلم بعض الدول العربية من الوقوع في فخ القروض الصينية، حيث زادت الاستثمارات الصينية في المنطقة في السنوات الأخيرة. ويشهد الأردن مشكلة حقيقية لهذه الديون، فوفقاً لوكالة "أسوشيتد برس" ، كانت محطة العطارات لتوليد الكهرباء التي تبلغ قيمتها 2.1 مليار دولار في الأردن مشروعاً تاريخياً، يهدف إلى توفير مصدر أساسي للطاقة للمملكة الصحراوية وتعزيز علاقاتها مع الصين.
ومع ذلك، بعد مرور أسابيع على افتتاحها الرسمي، أصبحت هذه المحطة مصدراً للجدل، حيث وجدت الحكومة الأردنية نفسها مطالبة بسداد ديون بمليارات الدولارات لمشروع لم يعد ضرورياً بسبب الاتفاقيات الأخرى التي تم التوصل إليها منذ بدء تنفيذ المشروع.
وتحاول الحكومة الأردنية حالياً التصدي للصفقة من خلال معركة قانونية دولية، وبهذا فقد أصبح الأردن أقرب مثال على النموذج القرض الصيني الذي يثقل كاهل العديد من الدول الآسيوية والإفريقية بالديون المعطلة، وأصبحت الصورة أكثر تحذيرية من ذي قبل للمنطقة.
كيف يمكن للدول العربية تجنب فخ الديون الصينية؟
في ظل التحديات الاقتصادية المتزايدة التي تواجهها الدول العربية، يجب أن تتعامل مع هذا النوع من القروض ببالغ الحيطة والحذر، لذا يستوجب تقدير المخاطر الاقتصادية والأمنية التي قد تنجم عن الالتزام بالشروط الصينية للإقراض.
بالإضافة إلي ذلك، ينبغي على الدول العربية التنويع في مصادر التمويل والاستثمار، بحيث لا تعتمد بشكل كبير على القروض بشكل عام وخصوصاً المشكوك في أمرها.
وفي حال استوجب اللجوء للاقتراض من الصين كمقرض "الملاذ الأخير" فيجب أن تكون العقود والاتفاقيات المالية مع بكين واضحة ومفهومة، وأن تشترط الدول مراقبة العملية بشكل فعال من قبل
المجتمع الدولي.
وهذا يتم عن طريق تعزيز الشفافية والحوكمة في الدول العربية بشكل عام وليس خلال عمليات الاقتراض وتنفيذ المشاريع فحسب، لضمان عدم وجود تحيزات أو تعاقدات غير عادلة تؤثر على مصالح الدولة العربية المقترضة.
أخيراً، يجب تقييم قدرتها على سداد الديون المتراكمة بشكل دقيق وواقعي. فتأخذ بعين الاعتبار دراسة القدرة الحقيقية على تحمل تكاليف الديون والفوائد المترتبة عليها قبل اتخاذ أي التزامات جديدة، ويتم ذلك عن طريق فتح المجال العام وللحصول على أرقام وإحصاءات صحيحة، بجانب تعزيز القدرات المحلية في مجالات البنية التحتية والصناعة والتكنولوجيا والابتكار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.